أشتهي أن أشتهي

كتبه د: محمد متولي

من الأمثال العامية الطريفة التي وَرِثَتْها والدتي -حفظها الله- عن الجدَّات، وكانت كثيرا ما تردده على أسماعنا ونحن صغار؛ لترغبنا في الطعام:

«إنْ حُلا زَادَك كُلُهْ كُلُّه؛ تِجِيلَكْ ساعَة تِحْلِفْ ما تشِمُّه».
ومعنى المثل ظاهر، وهو أنه إذا ساغ الطعام في فمك، ووجدت له حلاوة في حلقك، فاستمتع بأكله، ولا تبق منه شيئا، فإنك لا تدري ما قد يحدث بعد ذلك، فلعل ساعة قريبة أو بعيدة تأتي عليك، لا تتمكن فيها من التلذذ بهذا الطعام مرة أخرى! لعلَّة تصيبك فتمنعك منه، أو لعدم توافره مرة أخرى، أو لأي سبب آخر. .
وقد لا تكون لذة الطعام فيه نفسه، ولكنها في الظروف المحيطة بك أثناء تناوله، فإذا تخلفت تلك الظروف ذهبت لذة الطعام! ولذا فالمثل دعوة إلى اغتنام لذة الطعام حيثما وجدتها، فإنك لا تدري إذا كنت ستنعم بها مرة أخرى!
وعلى الرغم مما في المعنى الحرفي لهذا المثل من مآخذ تتعلق بأضرار الأكل والإفراط فيه، فإنه صحيح إلى حد بعيد، وبخاصة إذا نقلناه من ميدان الطعام إلى ميادين الحياة الأخرى.
فإذا قيض الله لك حبيبا تأنس إليه ويأنس إليك؛ فاحرص على ملازمته وطول الاقتران به .. لا تفارقه وانعم بحبه! فإنك لا تدري ما تخبئ لكما الأيام!
وإذا رزقت صداقة خِلٍّ وفي؛ فانهل من عذوبة تلك الصداقة، ولا تقصِّر في أداء حقوقها فإنها مما لا يُعوض!
وإذا رزقت العيش في ظل أبوين شيخين كبيرين؛ فانعم ببرها، فإن ذلك من حلاوة الزاد، الذي ينبغي أن يُلتهم حتى آخره!
وإذا وجدت في نفسك نهما للكتابة فاكتب، فقد يأتي عليك حين من الدهر يجف فيه مداد قلمك، وتعاف نفسك الكتابة فلا تكتب!
وإذا سنحت لك فرصة للسفر فسافر، وإذا سافرت فاستمتع، وإذا واتت الفرصة للعب فالعب، وإذا لعبت فاستمتع، وقل مثل ذلك في أشياء كثيرة . . ينبغي أن نغتمها في وقتها حتى لا نندم بعد فواتها!
لقد فهمت هذا المثل على هذا النحو، حتى لكأنه ترجمة لمعنى ما جاء في الحديث الشريف «اغتنم شبابك قبل هرمك»!
«إنْ حُلا زَادَك كُلُهْ كُلُّه؛ تِجِيلَكْ ساعَة تِحْلِفْ ما تشِمُّه».
إنها ساعة فقدان الشهية، وذهاب الشغف!
ساعة مُرة، تزداد مرارتها حين تتذكر تلك اللذة القديمة التي ذهبت!
الاشتهاء نعمة عظيمة! لا يعرف قيمتها إلا من فقدها!
يُروى أن النَّظَّام دخل على سيبويه في مرضه الأخير، فقال له: كيف تجدك يا أبا بشر؟ ما تشتهي؟ قال: أشتهى أن أشتهي!!

ترى يا أبا بشر . . هل كنت تأكل زادك كله حين كان حلوا شهيا؟!

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى