الحرب المؤجلة

بقلم عبد الحليم قنديل

برغم الروايات المتضاربة عن الذى جرى قبل أيام عند “جبل روس” بمنطقة مزارع شبعا اللبنانية المحتلة ، فإن أحدا لا يصح له أن يستبعد احتمال حدوث انفجار حربى واسع بين “حزب الله” وكيان الاغتصاب الإسرائيلى .

رواية كيان الاحتلال قالت ـ كما هو معلن ـ أن خلية من “حزب الله” تسللت وأطلقت النار ، وأن إسرائيليا لم يصب بسوء ، وبعد ساعات من الصمت التكتيكى ، نفى “حزب الله” أى تحرك من قبل عناصره ، ووصف الرواية الإسرائيلية بالكاذبة ، وقال أن الاحتلال بادر بقصف مناطق فى جنوب لبنان ، وعلى نحو عشوائى ، يعكس خوفه وقلقه من رد “حزب الله” القادم حتما ، فى إشارة إلى ما يسميه “حزب الله” معادلة الردع ، التى استنها بعد اغتيال إثنين من عناصره فى غارة إسرائيلية على سوريا ، وسقوط طائرتى استطلاع إسرائيليتين مسيرتين على منطقة الضاحية الجنوبية ببيروت أواخر أغسطس 2019 ، ورد الحزب وقتها بقصف آلية عسكرية إسرائيلية فى منطقة “أفيفيم” ، وهو موقف تكرر مثيله فى 20 يوليو المنقضى ، باغتيال عنصر من حزب الله فى غارة إسرائيلية بالقرب من مطار دمشق ، وتوقعت إسرائيل ردا طبقا لمعادلة الردع ، وصورت الحادث المكذوب الأخير كأنه الرد المنتظر ، وهو ما نفاه “حزب الله” ، واحتفظ بحق الرد ، الذى قد لا يشعل حربا كبيرة توا ، لكنه لا ينفى احتمالاتها بالجملة .

وقد تميل أغلب الآراء إلى عدم توقع حرب شاملة على الجبهة الشمالية لكيان الاحتلال ، ولأسباب تبدو وجيهة ، بينها أن إسرائيل لا تريد حربا قريبة مع “حزب الله” ، وأن رئيس وزراء العدو “نتنياهو” مشغول بمتاعب داخلية متفاقمة ، من نوع المضاعفات الاقتصادية لجائحة “كورونا” ، وتزايد وتيرة المظاهرات الغاضبة ضده ، وضعف استقرار حكومته المشتركة مع “بينى جانتس” رئيس الوزراء البديل ووزير الدفاع ، الذى لا يبدو مطمئنا تماما إلى نوايا نتنياهو ، الذى قد يفكر بالدعوة إلى جولة انتخابات رابعة قبل أوانها ، ويقطع الطريق على فرص صعود “جانتس” إلى منصب رئيس الوزراء رسميا حسب اتفاق التقاسم ، وعلى أمل أن يكسب نتنياهو أرضا انتخابية جديدة ، يصادر بها احتمالات إدانته فى محاكمات الفساد المقرر استئنافها أوائل العام المقبل ، وهو ما قد يعنى أن “نتنياهو” محاط بوضع داخلى مضطرب ، قد لا يكون مفيدا معه ، أن يخوض حربا ضد “حزب الله” ، لا تبدو نتائجها محسومة لصالح كيان الاحتلال ، ثم أن “حزب الله” هو الآخر ، يمر بأوضاع سياسية لا تبدو مواتية ، مع تفاقم التدهور المعيشى فى لبنان ، وتشديد الحصار الأمريكى والخليجى ، وتصاعد موجة الاتهامات لحزب الله بالتسبب فى أزمة لبنان ، وهو ما قد يلزم الحزب بالركون إلى الهدوء ، وعدم المبادرة إلى حرب مع العدو فى المدى المنظور ، وعلى نحو ما عبرعنه الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام للحزب قبل أيام ، قال الشيخ أننا ـ أى حزب الله ـ لن “نستدرج إلى حرب” ، وأنه لا يتوقع حربا فى الشهور المقبلة ، إضافة لموقف إيران الداعم الوحيد لحزب الله ، وهو ما لم يذكره الشيخ قاسم طبعا ، فطهران لا تبدو متحمسة لحرب قريبة ، وتفضل انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، وأملها لا يخفى فى إمكانية سقوط ترامب ، وفوز جو بايدن “الديمقراطى” ، الذى قد يمكن التفاهم معه على شروط لتخفيف الحصار الأمريكى الضاغط بقسوة على إيران .

وقد لا يريد الطرفان بالفعل حربا قريبة شاملة ، وإن كان ذلك لا يمنع وقوعها ، فالأعصاب مشدودة ، والأصابع على الزناد ، وإمكانيات التحكم فى اللكمات والضربات المتبادلة ، لا تبدو مؤكدة الأثر ، ولا تضمن عدم الانزلاق إلى حرب واسعة ، حتى لو حرص الطرفان على تأجيل مواقيت اشتعالها ، خصوصا أن الخطط جاهزة من زمن ، والاستعدادات والتدريبات والمناورات توالت ، فليس بوسع كيان الاحتلال أن يتعايش طويلا مع خطر بحجم “حزب الله” ، وهو أكبر خطر وجودى يتهدده على الجبهة الشمالية ، ثم أن خطرا آخر يضاف من منظور إسرائيلى ، هو الوجود العسكرى الإيرانى المتزايد فى سوريا ، الذى صار مقننا باتفاق عسكرى بين طهران وحكومة بشار الأسد فى دمشق ، وما تخشاه إسرائيل ليس مصير سوريا بالطبع ، بل تخشى من سعى طهران لإيجاد كيان يشبه “حزب الله” اللبنانى فى سوريا المحطمة ، وبانخراط كوادر “حزب الله” نفسه فى التحضير لأعمال قتالية على جبهة الجولان المحتل ، وهكذا يصبح الخطر مضاعفا ، على نحو تريده إيران لكسب ورقة ضغط جديدة باسم المقاومة ، بينما إسرائيل تريد إطلاق يدها العسكرية بلا عوائق ، وهو ما يفسر سياسة إسرائيل المعلنة ، التى يتفاخر بها “نتنياهو” ، وينافسه فيها الجنرال ” جانتس” ، وعنوانها الحيلولة دون تمكين إيران من التموضع وبناء قواعد مستقرة فى سوريا ، بشن ضربات جوية وصاروخية متتابعة ومنتظمة ، قد لا تعلن إسرائيل مسئوليتها عنها ، لكنها لا تنفى أبدا ، تماما كما لم تنف ما قيل عن تورطها فى تفجير منشآت نووية حساسة داخل إيران نفسها ، فإسرائيل تريد إضفاء قدر من الغموض على عملياتها لردع إيران ، يفيدها أيضا فى إدامة التواصل مع روسيا ، التى يفترض أنها حليفة لإيران رسميا ، لكن موسكو لا تريد للنفوذ الإيرانى أن يتخطى حدودا بعينها فى سوريا ، وتتحكم فى تشغيل معدات الدفاع الجوى المتقدمة فى سوريا ، ولا تطلق طاقاتها إلا فى ظروف وحدود معينة ، تبقى لروسيا فرصة الوساطة الضمنية بين طهران وتل أبيب ، وهى الوساطة الممتدة بالطبيعة إلى قيادة “حزب الله” ، بهدف تحجيم ردود الحزب فى سياق معادلة الردع الرمزى ، وهو ما لم تخفه الدوائر الإسرائيلية فى الأيام الأخيرة ، التى شهدت أيضا ، وتحديدا فى 25 يوليو 2020 ، اجتماعا استثنائيا لم يتكرر منذ عام 2012 ، جمع رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة مع قيادة جيش الاحتلال وأجهزة المخابرات ، لم يذع عنه غير كلام عمومى فضفاض ، يتحدث عن التحديات والمخاطر الأمنية فى المنطقة ، وقد لا يحتاج أحد إلى كثير من الفطنة ، ليدرك أن الموضوع الإيرانى كان فى قلب التباحث والتدقيق والتقرير ، وأنه جرى الاتفاق غالبا على هوامش حركة إسرائيل ضد إيران وجماعاتها ، وبأولويات إسرائيلية لا تحتمل انتظارا طويلا ، فقد لا تمانع واشنطن فى إطلاق يد إسرائيل ، ودعم عملياتها لزعزعة النفوذ الإيرانى ، وإلى حدود قد تصل لشن حرب ضد “حزب الله” ، تكمل بها الجهد الأمريكى الجارى لاعتصار لبنان ، و”خض ورج” كل تعاطف تبقى مع سلاح “حزب الله” ، والأخير هو أقوى ذراع وحليف لإيران ، التى لم يسقط الضغط والخنق الاقتصادى الأمريكى نظامها ، ولا جعل سقوطه قريبا وشيكا ، كما تشتهى واشنطن ، بل دفعه إلى تصرف صادم للخطط الأمريكية ، مع قرب إتمام اتفاق إيرانى هو الأضخم والأخطر من نوعه مع الصين ، تتعهد فيه بكين بتقديم استثمارات لإيران تبلغ 400 مليار دولارعبر 25 سنة مقبلة ، فى مجالات البنية التحتية والطرق والموانى والقطارات والاتصالات والتكنولوجيا ، مقابل احتكار صينى شبه تام لموارد إيران الهائلة من البترول والغاز الطبيعى ، وبأسعار ميسرة ، وبتبادل تجارى كبير ، لا يتم بالدولار ولا باليورو ، بل بالعملتين المحليتين للصين وإيران ، مع توقع دخول روسيا كطرف ثالث فى الاتفاق ، والتعهد بتوريد أسلحة روسية وصينية متقدمة لإيران ، مقابل إتاحة مواقع إيران وموانيها لنشاط عسكرى صينى وروسى ، مهدت له مناورات بحرية ثلاثية جرت قبل شهورعند شواطئ الخليج وبحر العرب ، وهو ما يعنى انقلابا شاملا فى موازين المنطقة ، وفى الصراع العالمى الجارى المحتدم بين الصين وأمريكا ، وربما لا تجد الأخيرة لردع التطور الجديد الخطير ، سوى أن تلجأ للقوة الحربية بهدف إجهاضه ، حتى لو ذهب ترامب وجاء بايدن إلى البيت الأبيض ، فلن تقبل واشنطن بسهولة أن تضع بكين السكين على رقبتها فى إيران .

وبالجملة ، فقد لا نكون بصدد حروب صغيرة ومناوشات متقطعة فحسب ، بل أن حوادث الحروب المحدودة ذاتها ، وهى جارية ومتواترة ، قد تكون تمهيدا متصلا بشرر النيران إلى حريق شامل ، لا تبدو كوابحه مفيدة فعالة إلى مدى طويل ، ولا تبدو رهانات التهدئة كافية لمنعه ، فكل تعبئة لقتال لابد لها أن تنتهى إلى الحرب ، وبالذات فى بيئة دولية متحولة ، يتهدد فيها ما تبقى من سيطرة أمريكا المنفردة على شئون العالم ، وبالذات فى منطقتنا وما حولها ، التى تحولت إلى ملاعب دماء سيالة ، لا يعلو فيها صوت على أصوات الدمار الذى جرى ويجرى ، وبانتظار دمار أوسع مقروء فى كف الأيام المقبلة .

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى