المغرب في مواجهة النظام القشتالي العميق

كتبت. جليلة أحمد خليفه

وسعاد حسنين

كلما طفت على السطح ازمة من شبه الجزيرة الايبيرية الى اسبانيا، الا ونضح الوضع برائحة النظام القشتالي البائد، الذي ترك وصاياه محفورة بالنار على لوح الدولة العميقة المقدس. واول الوصايا ابقاء الجيران المنتمون إلى شمال افريقيا واولهم المغرب، في وضعية الرمال المتحركة طوال الوقت، وخلق البلبلة بكل الطرق حتى لا تلتحم يوما ببعضها متحولة، الى قوة تهدد امن اسبانيا بأي وجه او طريقة.

لهذا رغم حسن الجوار والعلاقات التاريخية الإنسانية، لازالت بعض التيارات الراديكالية تساند في الخفاء والعلن قلاقل العصابات ونظام شرذمة مفككة الجبروت وملتحمة المصالح، بغض النظر عن رغبة شعوب المنطقة في النماء والاصلاح والصلاح. وكلما استبدت بمراكز القرار في الحكومة الإسبانية تدعم قهر كل العقلاء في الأراضي المجاورة للمغرب، بما فيهم المنادين بالعدالة الاجتماعية وتقسيم الثروات ومقاومة الميز، والتهميش والفقر.

لكن رغم التحديات الداخلية والخارجية، تجاوز النظام المغربي العتيد كل العراقيل المفجرة من طرف القوى الخارجية، وبدأ يخطو بصلابة فوق معابر التنمية البشرية والنمو الاقتصادي والتقدم العسكري والاقلاع الإنساني. لتحقيق طموحاته المشروعة بالتشييد في كل المجالات والرفع من مستواه على كل الأصعدة، فيما يراه الجار الإسباني منافسة مخيفة قد تنذر بعواقب لن تكون ابدا في صالحه.

أصبح غاز الجيران الاشقاء رشوة في أيدي حفنة من الاشقياء تقدم للجار الغربي، من أجل تمويل المكائد وري منابع الكره وتقسيم ارض الاخوة، ومن ظلوا رفاق التحرير منذ عقود قليلة لم تنس بعد. دون وعي أن هذا الغاز هو من حق شعب دفع ارواحا بالملايين، من اجل غد لائق بأجيالهم الحالية والقادمة. او بوعي كامل وعمالة جادة ونية مسبقة، في دك الجميع بلا استثناء لفائدة المتحكمين في الرقاب.

فوصول آلاف المهاجرين من المغرب إلى سبتة المحتلة هو تذكير بملف الثغرين العالق، وضرب على طاولة الاتحاد الأوروبي كي يعي الأخير جيدا أهمية دور المغرب كشريك، في حماية الحدود من كل أشكال الاجتياح العشوائي لأراضيه. بما في ذلك دفع شبح الإرهاب الدولي، وفيض الهجرة السرية من بلدان الساحل وإفريقيا، رغم إعادة معظم المهاجرين إلى المغرب، باستثناء نحو ألف من المهاجرين القاصرين ظلوا في سبتة لمنع قوانين الهجرة غير الشرعية والأممية من إعادتهم.

وطرح ضخامة دور المغرب جاء مباشرة بعد قضية غالي، التي كانت نقطة افاضت الكأس فقط. ليس فقط لأنه مجرم حرب استباح أرواح وأعراض الصحراويين المغاربة داخل مخيمات تندوف، وبعضهم يحمل الجنسية الإسبانية بما لهم من حقوق على الدولة الإسبانية وقضائها، بل لان نظام اسبانيا العميق كاد على مراحل أن ينجح في مسعاه لولا صمود المغرب. حيث بادر منذ تحرير الأخير وبعده الجزائر ودول غيرهما، الى زرع بذور الفتن ما ظهر منها وما بطن عبر بقاع شتى، مدعوما بقوى اخرى معادية لأي توحد أينما يوجد خارج بقاعها وخاصة المغرب، تحت مسمى التيارات اليسارية الراديكالية المشجعة لكل المبادرات الانفصالية. والمغرب بالخصوص لأنه الوحيد الذي يحمل لعنة الحدود المباشرة مع الغرب، ولازالت اسبانيا او بمعنى اصح اروبا بأكملها تحت ظل الاتحاد الأوروبي تستبيح ثغوره. واول الثغور واهمها سبتة ومليليه اللتين تعتبرهما اسبانيا ضمن حدودها، ويؤمن الاتحاد من ورائها انهما ترسمان حدود قارة اروبا جمعاء. مع أن التاريخ يشهد والتواجد الجغرافي يؤكد، انهما اخر الجيوب الاستعمارية في شمال افريقيا. لكنه الخوف من غد قادم سيفجر أثناءه موضوعهما، طال الزمان ام قصر لعودة طبيعية الى حضن الوطن. بعد ما وصل إليه ملف الصحراء من تقدم، تحت مبادرة المملكة المغربية لطي صفحة النزاع بإعلان الحكم الذاتي.

فالعقد والحساسيات الأوروبية القديمة لها ازلامها، كما في المقابل تملك تيارات سياسية معتدلة تهفو الى السلام والمصالحة الاممية والمشاركة الإنسانية لنماء شامل، لا يستثني دولة دون اخرى على اختلاف افكارها وعقائدها وجذورها.

والمغرب بعد التعافي من جراح الاستعمار واوجاع تقطيع مناطق مهمة من ارضه، كان المستعمر الفرنسي قد ضمها للجارة الجزائر توهما منه ان الجزائريين لن يتحرروا ابدا، وان ارض الاشقاء ستظل دائرة تابعة لحكم فرنسا. ظل لديه هو الآخر بحكم الجوار المباشر مع اروبا هاجس التحدي المشروع لرد الاعتبار، وايضا دفع اي عدوان غربي ممكن، والذي لم يتوقف منذ أقدم العصور. اي منذ وجدت الارضان جنبا الى جنب لا يفرقهما سوى بوغاز بسيط، وهو عبارة عن ممر مائي متواضع يحد البلدين، ويجمع البحر الابيض المتوسط بالمحيط الأطلسي.

فالصراع الأبدي بين البلدين عبر التاريخ لا يؤرخ فقط، بغزو القائد طارق ابن زياد الأمازيغي للأندلس عن طريق سبتة، بل بدأ قبل ذلك بكثير بحيث لم تسلم المملكتان عبر عصور من الشد والجذب، سواء كان تحرشا عسكريا متبادلا ودفع قرصنة أحدهما، أو تجهيز حملات توسعية من طرف أحدهما باتجاه الآخر.

ولا سبيل في العصر الحديث الى رفع الرأس في وجه مستعمر سابق وغازي قديم، سوى بنهضة تنويرية شاملة وفورة اقتصادية وسياسية، وقوة عسكرية تعدل موازين القوى في المنطقة الحدودية وما وراءها. مع حفظ دعم بعض الاقوياء واولهم امريكا، التي فجرت مؤخرا وضع الصحراء الساخن عن طريق اعترافها الشهير بمغربتيها التاريخية. وجاء هذا الاعتراف بعد ملحمة طويلة تجاوزت الاربعة عقود، منذ انطلاق المسيرة الخضراء كمقاومة سلمية لاستعادتها، تحت رعاية وهندسة المغفور له الملك الحسن الثاني وبانخراط الشعب المغربي بكامله.

فالعهد الجديد له رجاله السياسيين ورعاة ملفاته الأمنية، كما لديه ابطال مقاومته وشهدائه ومصلحيه المخلصين. لكن العهد هذا الذي بدأ يخيف دول الجوار ويرعب اذيال النظام القشتالي الخفي، له زعيمه العبقري الساهر على خلق عظمة مغرب مهدد على الدوام، لتميزه البشري ورونقه الجغرافي وغناه الحضاري، وهو الملك محمد السادس الرجل المثقف الواعي جيدا بمطالب العصر واحتياجات بلاده، التي حولها في غضون أول عقد من حكمه إلى مهوى القلوب سياحيا وتنمويا واقتصاديا.

ان ما يحصل مجرد تحريك البرك الراكدة لتصفية أشمل، واعطاء الضوء الاخضر لكل الاوطان الشقيقة بالوقوف في وجه سيف التقسيم، أيا يكن انتماء الكف التي تحمله وتحركه او تهدد بإنزاله. فلا عودة الى الوراء مهما تكن الوسائل المتاحة، لحفظ وحدة البلدان وحماية افرادها، وضبط أمور حياتهم بما يعلي كرامتهم الإنسانية، تحت راية وطن مستقر آمن يسع الجميع. وتعزز موقف المغرب مؤخرا بمساندة دول حليفة، من بينها مصر التي يجمعها بالمغرب تاريخ حافل موغل في القدم، وعلاقات ثنائية تحدت كل الهزات المفتعلة على التوالي. وتوجت بإعلان إقامة مشاريع تنموية ضخمة في الصحراء المغربية، مما يضفي على علاقات الأخوة طابع العمق والود الأزلي بين الشعبين الشقيقين.

فالمغرب اليوم نموذج لتنمية مستدامة، تحت ادارة حكيمة طموحة حداثية. وفي ظل انعدام ثروات الغاز تقريبا مقارنة بالجار الجزائر كمثال، يبقى جلبه الاستثمارات من الشرق والغرب خير سبيل للوصول الى القمة. فهو رمز التهديد الاقتصادي والعسكري والتنموي على السواء، وهو ايضا ذلك المزيج الاثني الذهبي الذي يشع بالجمال ويعد بالتنوير، ومشروع ازلي للتطور الحضاري بلا منازع في مواجهة تغول أروبا.

لكن طالما يوجد فوق الارض أناس يتنفسون سيسمو التشييد والتنوير والابداع، وبالمقابل سيعلو باستمرار غبار الدمار والخراب والسواد. ومعجزات السلام ستضيئ الآفاق بلا توقف بإرادة حكماء العصور المتوالية، ودعم الشعوب الواعية بقيم المحبة والتسامح والتعايش.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى