رسالة الكلِم الثمان للشيخ حسين المرصفي

كتبه: محمد سيد بركة
متابعة د. محمد علي عطا

يستعرض الشيخ حسين المرصفي في رسالته الكَلِم الثمان التي صدرت في طبعة جديدة- صدرت طبعتها الأولى عام 1881م – عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ببيروت محققا لها ومقدما خالد زيادة ثماني كلمات جرت على ألسنة الناس، فارتأى شرحها وهي:
الأمة، والوطن، والحكومة، والعدل، والظلم، والسياسة، والحرية، والتربية، من وجهة نظر عالم أزهري منفتح على الأفكار الجديدة. ومن خلال الشروح، يقدم تحليلًا للواقع المصري عبر نظرة نقدية تتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

يعد من الكتب الأمهات في علم الدلالة السياسي كما يقول د. أنور عبد الملك، بل يعد الكتاب الأول في هذا المجال في مصر كما يقول د. محمد حافظ دياب.
جاء كتاب المرصفي الكلم الثمان في مقدمة وستة فصول اختص الأول منها بمعالجة اصطلاح الأمة، ومتى تحسن حالها ومتى تسوء، وتناول الفصل الثاني معنى الوطن وماهيته من ناحية، وأنواعه من ناحية أخرى، مشيرًا إلى المضمون السياسي لذلك كله، فيما يتعلق بالحقوق والواجبات ثم ينتقل في الفصل الثالث ليدرس الحكومة ووظائفها وطوائفها والمشتغلين فيها، منتقلاً بعد ذلك لدراسة مفاهيم العدل والظلم والسياسة في فصل رابع، أما الفصل الخامس فيتناول اصطلاح الحرية، وأخيرًا يكتب عن التربية وما ينبغي أن يكون عليه كل من المربِّي والمربَّى، وأجمل في النهاية أفكاره فيما يشبه الخاتمة، التي تناولت أصول التربية.

يعرف المرصفي الأمة بأنها جملة من الناس تجمعهم جامعة أو مقوّم أساسي قد يكون اللسان (يقصد اللغة الواحدة) أو المكان أو الدين ثم يفاضل بين الأمم على أساس هذا المفهوم، فيرى أن الأمة بحسب اللسان أكثر استحقاقًا لهذا الاسم وهو أليق بها، وانتقل المرصفي إلى التساؤل عن أسباب تحسن أحوال الأمم وتحليل أسباب تدهورها فأشار إلى حرية الرأي فلا يرد رأي صغير لصغره، ولا يقبل رأي كبير لكبره، فالغاية هي تحقيق الحق وتقرير الصواب، وأنه على أفراد الأمة أن يتشاوروا ويتناصحوا.

وقد تحدث المرصفي عن صراع المصالح داخل الدولة، ما اقتضى وجود أمة تفرغ نفسها للاشتغال بذلك حتى تحكم أمرها ثم تلاحظ الناس في جميع تحركاتهم لتدعوهم إلى الخير وتأمرهم بما عرفته خيرا وتنهاهم عما أنكرته وعرفته شرا، فدار حديثه عن نشأة الحكومة ومهامها، متصلاً بالمفهوم الإسلامي حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنه دعا هذه الفئة من الأمة لدراسة تطور الأمم وتمدنها، لتصبح على وعي بالتجارب الإنسانية ومعاصرة لتجددها.

وانتقل المرصفي إلى تعريف الوطن، فعالج الاصطلاح بشكل عام، ثم انتقل إلى تحليل سياسي لفكرة الوطن من زاوية الواجبات والحقوق، فطالب مواطنيه باستعمال عقولهم لتمييز المنفعة، وصيانة الأبدان، والمبادرة بإصلاح الخلل والاسترشاد بعقلاء الأمة، وبهذا كله يصلح الوطن ويصان، وفي صلاحه صلاح أفراده، كانت تلك هي الفكرة المسيطرة عليه وهو يكتب عن واجبات المواطن.
ويعرف المرصفي الحكومة بأنها قوة تحصل من اجتماع طائفة من الأمة لإمضاء مقتضيات الطبيعة على وجه يقرب من رضاء الكافة، ومقتضيات الطبيعة هي المأكل والمشرب والملبس وكافة الحاجات الاجتماعية، أما سبيل الحكومة إلى بلوغ ذلك فهو إقامة العدل بين الناس، وأشار إلى العدل الاجتماعي بشكل خاص، فكان يرفض الطبقية والاستغلال والظلم الاجتماعي.
كما يلتزم الكتاب الفصحى؛ فالمرصفي بحسب زيادة جعل مهمته تحسين أسلوب الإنشاء والكتابة العربية، لكن مع ذلك، نجد بعض تراكيب الجمل وبعض العبارات تقترب من العامية، مع بعض الألفاظ الدارجة، وهي غير كثيرة على العموم في مجمل الرسالة.
يرى زيادة في تحقيقه الرسالة تأثيرا حاسما، في الشكل وفي المضمون، لمقدمة ابن خلدون، هذا التأثير الذي طبع فكر الشيخ الأزهري حسين المرصفي وانعكس بوضوح على سائر الرسالة.

فابن خلدون يقدم للمرصفي فكرةً عن انحطاط الدول ومنهجا لتحليل انهيارها وتلاشيها. والدول التي يتحدث عنها في مقدمته هي وليدة المجتمع الإسلامي ذاته الذي يستجلي المرصفي أحواله على الرغم من تقادم الزمن. ويفيد المرصفي من تحليل ابن خلدون ليحلل فساد المجتمع المصري وانحلاله، ويجد أن الفلاحين، شعب مصر، أو كما يسميهم العمال في الزراعة، كانوا واقعين تحت ضغط وإفساد ثلاث فئات هي: المماليك والعرب والعمد. ويستخدم تعبير (العرب) ليشير به إلى القبائل والعشائر، مبالغا في تضخيم دورهم.

يقدم المرصفي في الكتاب تحليلًا للواقع المصري ينطبق على مجتمعات أخرى مشابهة من عربية وإسلامية، وهذا التحليل الذي يقدمه ينطلق من حقائق الأمور: الفقر الشديد، والإرهاق الذي لحق بأوسع الفئات، وتسلط المتنفذين، وجهل ونفاق رجال الدين، فيعرض لنا تقريرًا عن واقع الحال دون تمويه أو تزيين.
وتتميز رسالة الكلم الثمان بواقعية صارمة ناتجة من تخلف أحوال البلاد والأعمال والأخلاق، ونابعة أيضًا من كون المرصفي ينظر بعدم الرضى إلى التطورات خلال حقب طويلة، ما اقتضى القبول بالأمر الواقع والحاكم الظالم والجباة العتاة وانحسار أرض الإسلام والابتعاد عن المعروف ومزاولة المنكر، لذلك يصف الشيخ هذا الواقع ويبرره تبريرًا منطقيًا، ويقبل بهذه السيرورة التي أملاها تعاقب الظروف، فيأمل بإصلاح الأحوال إصلاحًا لا يخرج عن النظام ولا يقود إلى الفتنة، فيقبل بعدم التكافؤ والتناصف، ويرفض الظلم الذي يؤدي إلى تعطيل الناس عن أعمالها وفشو الفساد والابتعاد عن الأخلاق.
ويوجه المرصفي سهام نقده إلى جميع فئات المجتمع وطبقاته وطوائفه، وكل مجالات الأعمال والصنائع، وأشكال العلاقات السائدة بين الناس، من التسلط وغياب الإنسانية والجهل بالمصالح والجهل بالأخلاق. لكنه لا يرضى بالنقد من دون تحديد كيفية الإصلاح.
حسين المرصفي
ولد حسين أحمد حسين المرصفي في القليوبية في بلدة مرصفا التي أعطت اسمها للعائلة، وكان والده أستاذا في الأزهر ولأن بصره فقد وهو في الثالثة من العمر فقد ألحقه أبوه بالزاوية المخصصة للعميان في الأزهر. وبعد إجازته، كان يقرأ لطلابه كتب الأدب والنحو. عينه علي مبارك، ناظر المعارف، أستاذا في دار العلوم بعد افتتاحها في عام 1871، فتفرغ لتدريس اللغة العربية وآدابها. إضافة إلى رسالة الكلم الثمان، له:
الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية، ودليل المسترشد في فن الإنشاء. تعلم الفرنسية بطريقة بريل.
يعد المرصفي أحد أساتذة النهضة المصرية والعربية في البيان والإنشاء واللغة العربية، كما كان كتابه رسالة الكلم الثمان عنوانا على اعتباره أحد الذين أسسوا للفكر السياسي المصري والنهضوي في القرن التاسع عشر، ويكفي أن نشير إلى أن من تلامذته أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وعبد الله فكري والشيخ محمد عبده، والشيخ حمزة فتح الله وحفني ناصف وحسين الجسر وغيرهم.
خالد زيادة
أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي. شغل منصب سفير لبنان في جمهورية مصر العربية، ومندوب لبنان الدائم في جامعة الدول العربية (2007-2016). هو حاليا مدير فرع بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
صدر له : المسلمون والحداثة الأوروبية، وسجلات المحكمة الشرعية – الفترة العثمانية: المنهج والمصطلح. الكاتب والسلطان، والخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية، لم يعد لاوروبا ما تقدمه للعرب. كما حقّق العديد من النصوص.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى