رمضانيات.. الحالُّ المُرْتَحِلُ

كتب: أ.د. زكريا عبد المجيد النوتي

في الحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- سُئل: “أيُّ الأعمالِ أفضلُ”؟ فقال: “الحالُّ المُرْتَحِلُ”. قيل: “وما ذاك؟”. قال: “الخاتِمُ المُفْتتحُ”. وهو الذي يختم القرآن، ثم يفتتح التلاوة من أوله.. شبَّهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحل فيه، ثم يفتتح سيره، أي يبتدئه…
وكذلك كان قراء أهل مكة، إذا ختموا القرآن بالتلاوة، ابتدؤوا وقرؤوا الفاتحة وخمس آيات من سورة البقرة، إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)، ثمَّ يقطعُون القراءةَ…ويسمون ذلك: الحال المرتحل؛ أي أنه ختم القرآن، وابتدأ بأوله، ولم يفصل بينهما زمان…
وقيل: الحال المرتحل: الغازي الذي لا يقفل عن غزو إلا عقِبَه بآخر…
والذي يعنينا المعنى الأول، وهو المشهور.. ومذكور في مصادر كثيرة….
أما عن درجة الحديث فإنه ضعيف .. وقيل: موضوع..
وأما عن معناه فهو الحث على الإكثار من الختمات.. ونسمع ذلك كثيرًا في رمضان؛ فقد كان هناك داعية يتابعه ملايين يدفع متابعيه إلى المنافسة في من ينجز من الختمات أكثر.. ولم يكن للشباب آنئذ إلا الافتخار بعدد ختماته.
ومنذ سنوات سمعت خطيبا شابا على منبر الجمعة، يقول: كان الشافعي يختم القرآن كل يوم ثلاث مرات، وقد ثبت أن الختمة تستغرق عشر ساعات. فلما انتهى قلت له :
١ – اليوم كم ساعة؟ قال: ٢٤ ساعة .. قلت: لكن يوم الشافعي ٣٠ ساعة! وذلك وفق حسابك.
٢ – ألم يكن الشافعي يصلي، ويتوضأ، ويدخل الخلاء؟ وهل كان لا ينام، ولا يأكل، ولا يشرب، وليس لأهله وذويه منه نصيب؟ ومتى ألَّف الرسالة والأم؟ ومتى ألقى دروسه؟ ومتى أفتى؟ وحين كان يقرأ أليس للتدبر عنده نصيب؟!
فلم يُحِرْ جوابًا..

إن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة والحفظ، قال تعالى: (كتابٌ أنزلناهُ إليكَ مباركٌ ليدبروا آياتِه وليتذكَّر أُولو الألبابِ) [سورة ص: ٢٩]. وقال تعالى: (أفَلا يتدبَّرُون القرآنَ أمْ علَى قلوبٍ أقفالُها) [سورة محمد: ٢٤]. وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن أنهم كانوا إذا حفظوا عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها إلى غيرها حتى يعلموا ما فيها ويعملوا بما فيها.
ولله در القائل :
يَا قومُ هيَّا إلى القُرآنِ نقْرَؤه * تدبُّرًا فلمَاذا قدْ هجَرَنَاهُ
فيهِ النَّجاةُ لنَا مِنْ كلِّ مُعْضِلةٍ * فيهِ الفلاحُ إذَا حقًّا تَلَوْنَاهُ
بالأمسِ لمَّا تدبَّرناهُ أسعدَنا * وقدْ بلغنَا بهِ في العزِّ أقصاهُ
روى أحمد وابن ماجه والترمذي عن زياد بن لبيد الأنصاري بسند صحيح – ونقله ابن كثير عند تفسير الآية ٦٣ من سورة المائدة: ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئًا، وقال: ” وذلكَ عندَ أوانِ ذهابِ العلمِ”. قالوا : يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونُقرئه أبناءنا ، ويُقرئه أبناؤنا أبناءهم؟! قال: ” ثَكَلتكَ أمُّك يا ابنَ أمِّ لَبِيد- أو زياد- إنْ كنتُ لأراكَ مِن أفقِه رجلٍ في المدينة! أوَ ليسَ هذه اليهودُ والنصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيلَ، ولا يعملون بشيءٍ ممَّا فيهما؟!”
لقد قال – صلى الله عليه وسلم –”تركتُ فيكُم مَا إنْ تمسَّكتم بِه لنْ تضِلُوا بعدِي أبدًا”. لماذا قالَ: “فيكم”، ولم يقل: “بينكم” ، أو “معكم” ، أو لفظة أخرى؟
لأن “فيكم” تعني: في قلوبكم.. وضمائركم.. في أقوالكم.. وأفعالكم.. فيما تأتون. وما تدعون .. في أوامركم ونواهيكم.
في معاملاتكم مع أزواجكم وأبنائكم وجيرانكم وطلابكم ومعلميكم…في بيوتكم، في شوارعكم، في مساجدكم، في مدارسكم……في كل شؤون حياتكم..
باختصار يكون قارئ القرآن قرآنا يمشي على الأرض..
فليس مهمًّا كم تقرأ..المهم التدبُّر..مستعينًا بكتب التفسير.
كل فرد حسب استطاعته…

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى