عودة للحوار الفلسطينى

بقلم عبد الحليم قنديل

قد لا يكون الكلام ولا الرجاء مفيدا فى أغلب حكومات العالم العربى ، ولا نصفها بالحكومات العربية ، فالرابطة بين الشعوب وحكوماتها عندنا اسمية غالبا ، وما من جدوى فى تكرار الحديث عنها حتى إشعار آخر ، ولا عن جامعة الدول العربية ، وقد ماتت وشبعت موتا ، والضرب فى الميت حرام .
وقد كانت القضية الفلسطينية هى “العروة الوثقى” فى النظام العربى ، وشهدت الجامعة العربية أفضل مراحلها بعد هزيمة 1967 وحتى حرب أكتوبر 1973 ، كان الهدف واضحا فى محو آثار العدوان الإسرائيلى ، وكانت الأدوار موزعة بين دول للمواجهة وأخرى للدعم المالى والتسليحى ، وكان مشهد الالتحام العربى فريدا لحظة العبور المعجز إلى الحرب والنصر، وتصورت دوائر فى الاستراتيجيا العالمية وقتها ، أن أمة العرب قد تكون مرشحة لصعود إلى مكانة القوة السادسة عالميا ، أى إلى جوار القوى الخمس الكبرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى ، وبدا فى التصور قدرا من التفاؤل اللحظى ، تحطمت دواعيه بوقائع ما بعد الحرب النظامية الأخيرة مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وفى قلب ما جرى ، كان الانهيار الدراماتيكى لاختيارات السياسة والاقتصاد فى مصر ، وهى وتد الخيمة العربية بامتياز خلقى لا مصطنع ، ثم راحت الانقلابات تتداعى فى القاهرة بعد حرب أكتوبر ، من انفتاح “السداح مداح” ، وإلى عقد ما أسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، وما بينهما من إطلاق عصابات النهب ، ودوس الذين “هبروا” على دماء الذين عبروا ، وكان إضعاف مصر إضعافا للدنيا العربية برمتها ، وصعودا لآخرين ، اشتروا أشباه أدوار بفوائض المال الريعى ، وصولا إلى اللحظة الراهنة المقبضة ، لحظة توحش وتمدد أدوار لدول جوار مع طغيان العصر الأمريكى الإسرائيلى فى المنطقة ، مع أنفاس تقطعت ثم خمدت لنظام عربى تداعى ، سرعان ما زهقت روحه ، ولم يعد قادرا حتى على مجرد استنكارلفظى لتحالف حكومات دول عربية مع كيان الاحتلال الإسرائيلى .

ومن حق السلطة الفلسطينية طبعا أن تغضب ، وأن تستنكر الوضع المأساوى للجامعة العربية ، وهى فى البدء والمنتهى جامعة حكومات لا شعوب ، غير أن “النظام الفلسطينى” إن صح الوصف ، كان دائما طرفا فى سيرة النظام العربى كله ، صعد بصعوده ، وتراجع مع انهياراته ، ومن دون إدراك فعلى ناجز لأم الحقائق اليوم ، وهى أن القضية الفلسطينية صارت فى عصمة الفلسطينيين أولا ، وقبل وبعد أى طرف عربى أو إقليمى آخر ، ولا يصح أن تكون موضعا لاستقطابات أو محاور مساومات ، ولا أن تعود “الحكومة الفلسطينية” نفسها ، إلى اجترار كلام سقط من كل حساب ، كالحديث مجددا عن مفاوضات شبعت فشلا ، عبر نحو ثلاثة عقود خلت ، ولا عن رباعية دولية ديكورية ، ولا عن مبادرة سلام عربية مأسوف على شبابها ، ولا عن “حل الدولتين” ، الذى انتهى عمليا إلى مخازن الأرشيف السياسى .

ومع عقد الاتفاق الإماراتى الإسرائيلى ، والاتفاق البحرينى من بعده ، وما قد يستجد من اتفاقات تحالف ملوث لا مجرد تطبيع مدان ، ظهر نوع من ايحاءات الصحوة الفلسطينية الرسمية ، وبدأ حوار الفصائل ، وأعلن عن اتفاق لتكوين “الهيئة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية” ، نظمت بعض صور الغضب الفلسطينى على ما جرى ، ثم بدا أن القصة تراوح مكانها ، وأن ترتيبات انتفاضة فلسطينية ثالثة ليست جاهزة ، أو ربما لم يتخذ قرارها الأساسى ، الذى يستلزم بطبائع الأمور مراجعات شاملة ، تنهى ما تبقى من مهانات أوسلو ، وتبلور بديلا عن السلطة الفلسطينية المنقسمة بين رام الله وغزة ، يرد الاعتبار لمنظمة تحرير فلسطينية جامعة ، تكون هى القيادة والعنوان الوحيد لكفاح الشعب الفلسطينى ، وبدلا من التقدم إلى بناء رؤوس جسور جديدة ، عدنا إلى قصة حوار “فتح” و”حماس” ذاتها ، التى استنزفت جانبا مهما من حيوية الشعب الفلسطينى لسنوات طويلة مريرة ، وأخذت سلبا من وهج وجاذبية القضية الفلسطينية ، وقادت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سرداب الحوارات التى لا تنتهى ، وتمضى فى دائرة جهنمية مفرغة ، يعلن فيها كل مرة عن التوصيات والاتفاقات ذاتها ، ثم لا ينفذ منها شئ ، فعقب كل جولة من مئات الاجتماعات التى جرت ، يعود كل طرف إلى تفسير يحتفظ به لنفسه ، ويعود إلى تكرار المناكفات المعتادة ، وقد يصعب تذكر عدد المرات التى انتهت باتفاق على إجراء انتخابات جديدة ، ثم يضيع الوعد كل مرة فى تفاصيل تسكنها الشياطين ، من نوع انتظار صدور مراسيم الدعوة الرئاسية للانتخابات ، وهل تشمل القدس المحتلة أم تجرى بدونها ؟، ثم يقال أن القصة تجمدت ، وبسبب رفض الاحتلال الإسرائيلى إجراء انتخابات فلسطينية فى القدس ، وهو ما قد نراه مجددا ، بعد ما قيل أنه “اتفاق اسطنبول” ، أو الحوارات المباشرة بدون رعاية خارجية ، لتستأنف القصة ذاتها ، وتتوالى النزاعات حول نصيب كل طرف من الكعكة الانتخابية ، وكأن الفلسطينيون ينقصهم الألم وخيبة الأمل ، وكأن دوامة الحوارات الفلسطينية لا تصل لقرار، مع أن الهدف يبدو خارج السياق المطلوب بالجملة ، فهب أنهم اتفقوا على انتخاب برلمان أو مجلس تشريعى آخر ، مقصور فى تمثيله على الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية ، أو مضافا إليه تمثيلا لفلسطينيى القدس ، لو جرى التوصل إلى حل للفزورة ، ثم جرت انتخابات رئاسية ، تعقب إجراء الانتخابات التشريعية بثلاثة شهور كما يقال ، فهل يعنى ذلك جديدا فلسطينيا من أى نوع ؟ ، أم تكون إعادة إنتاج لسلطة حكم ذاتى فلسطينية ، هى ذاتها سلطة أوسلو ، الجواب ظاهر ، ولا يقطع شبرا فى عملية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية ، بل نخشى أنه يضيع الفرصة السانحة لانتقال ضرورى ، يغادر مرابع التيه بالجملة ، ويعيد الشئ لأصله ، ويسترد حق وواجب تحرير الوطن المحتل بكامله ، ويصوغ هدف إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بأغلبية فلسطينية على كافة الأراضي ، ويوزع الأدوار بحسب ظروف الساحات ، وينوع فى أساليب الكفاح ، ومن دون إغفال الحق المطلق فى الكفاح المسلح ، جنبا إلى جنب مع الكفاح الجماهيرى السلمى والكفاح الديمقراطى والعمل الدبلوماسى ، مع الترك النهائى لخديعة “الدويلة” الفلسطينية ، أو “الدويلتين” فى غزة ورام الله ، وإلى سواها من أوهام سقطت من زمن .

وقد لا يخفى أن مشكلة الشعب الفلسطينى الراهنة ، هى فى تدهور أوضاع حركته الوطنية القيادية ، وفى تصرفات اليوم بيوم ، ومن دون خطة أفق مجمع عليها ، ومن دون جهاز تنظيمى مرجعى متفق عليه ، ومن دون تجديد شباب الأطر العليا لمنظمة التحرير ، والركون إلى منافع عابرة ، ومظاهر سلطة بدون جواهر السلطة ، وبما يزيد من حيرة وعذاب الشعب الفلسطينى ، الذى لا يملك أحد حق المزايدة على صلابته وكفاحيته ، ولا على قدراته فى التضحية والعطاء والهبات المتصلة ، لكن غياب البوصلة والقيادة المرشدة عيب فادح ، فلا أحد بوسعه اليوم أن يحيى القضية الفلسطينية عربيا وعالميا ، سوى الشعب الفلسطينى نفسه ، وقد نجح فى معارك البقاء والثبات جيلا فجيل فوق أرضه المقدسة ، ويستحق أن يزال عنه كل قيد يعوق حركته ، وأن تسقط كل فتاوى تحريم المقاومة المسلحة ، فالاحتلال ـ أى احتلال ـ لا يزول عطفا ولا تجاوبا مجانيا مع حقوق مجردة ، بل يزول الاحتلال فى لحظة بعينها ، حين تزيد تكاليف بقائه على فوائده للمحتلين ، وهذه هى خبرة كل شعوب الدنيا ، وخبرة الشعب اللبنانى فى تحرير جنوبه من دون توقيع صك سلام ولا اتفاق تطبيع مع العدو ، وهى خبرة الشعب الفلسطينى نفسه فى مطالع القرن الجارى ، وقت أن أرغمت المقاومة المحتلين على الجلاء عن غزة وتفكيك مستوطناتها اليهودية من طرف واحد ، ولم يحدث أبدا فى التاريخ الإنسانى ، أن كانت قوة المقاومة عسكريا مساوية ولا مقاربة لقوة الاحتلال العسكرية ، وبيننا ومن حول فلسطين نماذج ملهمة ، صنعت جيلا جديدا من حروب ردع المحتل بأبسط الإمكانيات ، وعلى نحو ما جرى بالتراكم فى تجربة “حزب الله” اللبنانى ، وفى تجربة المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة ، التى خاضت حروبا ثلاثة طويلة ضد عدوان إسرائيل ، إضافة لعشرات من الحروب الأقصر ، ومن دون أن تنجح إسرائيل مرة فى تفكيك ولا نزع سلاح المقاومة ، ثم أن إسرائيل على قوتها العسكرية والنووية الظاهرة ، تعانى هشاشة فى عظام مشروعها الاستيطانى الإحلالى ، تعانى من الانقلاب السكانى المتزايد لصالح الشعب الفلسطينى ، وكل استيطان مصيره إلى زوال ، ما لم ينجح فى محو السكان الأصليين ، والشعب الفلسطينى ليس أقل كفاحية من شعب الجزائر ولا من شعب جنوب أفريقيا ، وكلاهما هزم الاحتلال الاستيطانى المدجج بالقنابل الذرية .

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى