“في القطار” قصة قصيرة

كتبها: د. سيد شعبان

أسرعت الأيام تمضي غير مهتمة بمن يدبون مثل ديدان الأرض، تفر من غلظة أقدام العابرين، العام الماضي كانت رحلتي في ” قطار الضواحي” لا أدري ما الذى حدث بعد هذا؛ ربما ارتحل ركابه وبقي بعضهم، لكن الشيء الذي ظل كما هو تلك المرأة ذات الخد الذي يشبه حبة التفاح، نظرت إليها، لم تعد كما هي، وجدت اصفرارا ونحولا أصاباها، صارت عجوزا، هذا ما يخيل إلي، أنا كذلك أبدو واهنا، لم تعد لدي شهية للسرد، القطار في ذهول يتجدد كل يوم راكب لا يعرف له وجهة، تعددت أوجه التفسير ، غير أن الحدث المؤكد أن الحياة في بلادي مصابة بداء التكلس، الذهول يسيطر على الجميع، فقد الجميع الرغبة في الحديث، إنهم كتل بشرية متراصة من لحم له رائحة عرق مثيرة للغثيان، ثمة شيء يبدو في ليل حالك، إنهم أشبه بكائنات آلية، بل هم ورد مجفف، تبدو ذات الخد الذي يشبه حبة التفاح كما لو كانت مصابة بداء عجيب، يجوب القطار الآن رجل حافي القدمين، يقف قبالتي- يندس زميلي في مقعده الخشبي- مصاب بتقرحات في ظاهر قدمه، شعره ملبد مثل فراء الخروف، عيناه زائغتان، طويل بالقدر الذي بسمح لرأسه أن يلامس سقف عربة القطار، يلوك جملا فرنسية، يتساءل بلكنة إنجليزية، في زمن العولمة تبدو اللغة أكثر بهجة.
خفت منه.
أصابتني رعدة أن أكون في يوم مثله؛ لدي مفردات من لغات عدة، يعبث بي الشيطان؛ أنا هو، لكنني أنتعل حذاء، وماذا في هذا؟
يوما سيتمزق ويتلاشى كعبه؛ لم نجد يوما من يحنو على ركاب الدرجة الثالثة ، ساعتها لن يكون في مقدرتي أن أشتري ثوبا للعيد، راتبي مقيد بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا من لوائح مملة. ومن سطوة الفقر أهرب جهة المرأة التي يشبه خدها حمرة الورد.
المرأة ذات خد التفاح تحرك شفتيها، إنها تردد دعاءها اليومي: اللهم أعطني رزقي كفافا !
الرغبة آثمة في شهر الصيام، بل هي ممتنعة إذا ما الليل جاء لم تعد لأحد حاجة أن يختان نفسه، صنابير المياه خاوية، ثياب النساء لم تعد زاهية.
الرجل المكتنز لحما كما هو، يهرب بعيدا، يجتهد حتى لا تتعرف عليه، لقد أطاح بسلة بيضها، ماتزال بقاياه شاهدة على رصيف محطة البوصيلي، يبدو أنها تبحث عن عوض لما حدث لها، تعددت آلامها
الرجل المصاب بالجنون يلوك مفردة يخبر بها أنه مريض، يحمل قطعتي جبن أبيض، ليس عليه حرج، إنه لا يفرق بين رمضان وشوال. تدور عيناه مجددا في وجوه الركاب، أتحاشى أن يراني؛ ربما كان ماردا عملاقا، أو لعله رجل الشرطة السرية يتلون حرباء، لا ضير فهؤلاء يجنون لأجل الوطن!
تتناهى إلى أذني محادثة بين الركاب، يحلمون برغيف خبز في زمن القحط، تبدو أشجار المانجو خاوية، البحيرة ذات رائحة عطنة، القابعون في مقاعدهم تمسك بهم الحيرة يتساءلون!
صوت يناغم: مصر جميلة؛ المعدية والبحر يتراقص، المصانع والسفن والأمل يختال فوق صفحة الماء الزرقاء، أمضيت اليوم الثاني من الامتحانات، عند سيدي جابر أدركت قطار الواحدة ونصف، إنه يوم الحشر كتل بشرية يدفع بعضها بعضا، في لمحة كنت أسكن رف القطار، ها قد علوت الرقاب، تتدلى قدماي، ثمة خاطر؛ هل سيأتي العام القادم وناس قطار الضواحي كما هم؟
مؤكد أن هذا سيتغير بعض الشيء. رجل الشرطة فراؤه الملبد لن يحمل قطعتي جبن، سينظفون قدمه، ستعلو كتفيه النجوم، كل واحد معه جبنه المعد له إنها بصمته الوراثية التي يحتفظون بها في اقبية الحواسيب الذكية، تنقطع شارات التواصل مع ناس القطار، يغزو الشعر الأبيض رأس المرأة التى لن تعود تشبه خد التفاح.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى