د. صغير بن محمد الصغير
أبناؤنا والانحراف الفكري
تُفَاجَأَ بعضُ الأُسَر بين الفَيْنَة والأخرى بانحرافاتٍ لأبنائهم؛ إمَّا غُلُوًّا وتَطَرُّفًا، وإمَّا تَمَيُّعًا وسُقوطًا أخلاقيًّا – عافانا الله والمسلمين مِن ذلك كلِّه – ومَن ذا الذي يأمَن على نفسه أو أبنائه إلا مفتونٌ مخدوعٌ… زَيَّنَ له الشيطان سوء عمله، وأغْوَاه وأهلَكَه…
قال ابن القيِّم رحمه الله: (وتحتَ قوله: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ… ﴾ [إبراهيم: 27] كنزٌ عظيمٌ، مَن وُفِّقَ لمظنَّتِه وأحسَنَ استخراجَه واقتِناءَه، وأَنفَق منه فقد غَنِمَ، ومَن حُرِمَه فقد حُرِم؛ وذلك أن العبد لا يَستغني عن تثبيت الله له طَرْفة عين، فإن لم يُثبِّتْه وإلا زالت سماء إيمانه وأرضُه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرمِ خلْقِه عليه، عبدِه ورسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 74]). اهـ.
ومهمَّة شياطين الجن والإنس إضلالُ بني آدم، ومِن طُرُق إغواءِ شياطينِ الإنس والجن للمسلم – كي يَصطَّف مع الباطل أو جزءٍ منه، شَعُر أم لم يَشعر – طريقان رئيسان:
الطريق الأول: هو طريق الشهوات والملذَّات… يُساعدُهم في ذلك النفْسُ الأمَّارة بالسوء؛ ولذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم محذِّرًا مِن هذا الطريق الخَطِر على دينِ المرءِ وسلوكِه وخُلُقه… ومبِّشرًا للمُبْتعِد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: ((حُجِبَتِ الجَنَّةُ بالمكاره، وحُجِبَتِ النارُ بالشهوات)). متفق عليه.
الطريق الثاني: مِن طُرُق إغواء شياطين الإنس والجن: طريق الشُّبهات والتأويلات.
فإنَّه ما نشَأت الفِتَنُ المُدلَهمَّة، والتفرُّق في الأمَّة، والضلال المبين إلا مِن هذا الطريق… حِينَ يَتْرُكُ المَفْتُونُ اليَقِينَ وَيَتَّجِهُ للشُّبْهَةِ فَتَصْرِفُهُ بِالتَّأْوِيلِ عَنِ الحَقِّ إِلَى أَنْ يَزِيغَ. وَفِي آثَارِ التَّأْوِيلِ يَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ نَفِيسٍ، أذكر طرفًا منه: (وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، وَالْحَرَّةِ، وَفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَلُمَّ جَرًّا بِالتَّأْوِيلِ… فَمَا اُمْتُحِنَ الْإِسْلَامُ بِمِحْنَةٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَبُهَا التَّأْوِيلُ… وقال: وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَأَوْقَعَ الْأُمَّةَ فِيمَا أَوْقَعَهَا فِيهِ حَتَّى الْآنَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَابْنِهِ الْحُسَيْنِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاء الْعَرَبِ فِي فِتْنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي قَتَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ، وَخَلَّدَ خَلْقًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي السُّجُونِ حَتَّى مَاتُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وَمَا الَّذِي سَلَّطَ سُيُوفَ التَّتَارِ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى رَدُّوا أَهْلَهَا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟) انْتَهَى.
أيها القارئ الكريم: لستُ بصدد تعظيم سفْك الدم الحرام وخطورته، وجُرم مرتكبه… فهذا معلوم مِن الدين بالضرورة، وقد بيَّن العلماءُ والدعاة ذلك تبيينًا لا لَبْس فيه؛ هذا مِن جهة شناعة الفعْل شرعًا، وأما مِن جهة فساده في السياسة الشرعية في زماننا؛ فإنَّ المشروع الاستعماريَّ الغربيَّ لإحداث الفوضى في بلاد المسلمين قد ظهَر مِن السِّرِّ إلى العَلَن، وبُدئ في تنفيذه عمليًّا؛ وذلك بعد فشَل الغزو المباشر لأفغانستان والعراق؛ لتكون الفوضى بدلَ الغزو، كما تكون الفوضى أيضًا فوضَى خلَّاقة؛ ومِن ثَمَّ فقد خَلَق بُؤَرًا للصِّراع بأسباب مذهبية أو عرقية أو غيرها، وأشعَل نارَ الفتنة التي تحرِّك أكثرهم، وأمدَّهم بالسِّلاح لِيَقتُل بعضُهم بعضًا، حتى إذا ما أُنهكوا جميعًا جاء المستعمر لِيَفرِض نفوذَه، ويُملي شروطَه، ويُقسِّم المقَسَّم مِن بلاد المسلمين إلى دُوَيلات صغيرة مُتعادِية، يَسهُل إشعالُ الصراع بينها في أي وقتٍ يُريد. فهل يكون ذا عقلٍ مَن يَضع نفسَه أداةً لتنفيذ هذا المخطَّط الإجراميِّ، الذي يقضي على ما تبقَّى مِن بلدان المسلمين وأراضيهم؟!
وأما المشروع الصَّفَوِيُّ الفارسيُّ فإنه لَمَّا بان له العجْز الكبير عن المواجهة المباشرة لإعادة مملكة كسرى؛ استَجْلَب الفكرة الغربية في نشْر الفوضَى، ولا يَستطيع ذلك إلا عن طريق صناعة الفعْل ورَدِّ الفعل، بالتخريب والتفجير، والقتل، والتدمير، ومِن الغَبْن العظيم، والقهْر والإثم الكبيرِ أنْ يتمَّ تنفيذُ هذه السياسة الفارسية الخبيثة بأيدي أبناء المسلمين…
ومع ذلك كلِّه لِنبحَثِ الأسبابَ التي جَعلَت مِن بعضِ أبنائنا أداةً لِتنفيذ المشروعات الصفوية والاستعمارية في تقسيم المقسَّم وإحداثِ الفوضى – شَعروا أم لم يَشعُروا، ولِمعرفة سبيلِ التخلُّص منها ومدافعتها، والحذَر مِن أنْ تؤثِّر على البقيَّة.
والأسباب التي تؤدي إلى الانحراف الفكري كثيرة؛ منها ما يلي:
أولًا: الجهل.
إنَّ خطورة الجهل وضرَّره لا تخفَى على عاقل؛ ولذلك يقول أهل العِلم: (إنَّ الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعصية، ويقوَى بالعمل، ويضعُف بالجهل)، كما نُقل عن الإمام أحمد رحمه الله وغيره.
بل اعتَبَر الإمامُ الحسَن البصري رحمه الله أن الجهل أشدُّ مِن الفقر؛ حيث يقول: (لا فقرَ أشدُّ مِن الجهل، ولا مالَ أَعوَد مِن العقل، ولا عبادةَ كالتفكُّر، ولا حسَب كحُسن الخُلُق، ولا وَرَع كالكَفِّ).
والجهل الذي يقع فيه المنحرفون فكريًّا على أحوال:
إمَّا جهل مظلمٌ بالشريعة ونصوصها ودلالاتها، فهو لا يَعرف الأدلَّة أصلًا!! وإما جهل في دلالتها ومقاصدها، فهو يَعرف الدليلَ، ولكن ينحو به التأويل مَنحًى بعيدًا لِيُوافقَ ضلالتَه فينحرف به… وهذا الصنف يَغلُب عليهم – مع جهلهم – اتِّباعُ الهوى؛ ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23]، وهذا الصنف لا يُقيم لِكلام أهلِ العِلم سلفًا وخلفًا وزنًا، ويَطير فرحًا إنْ وَجَد مُؤلفًا وافَقَ هوًى في نفسه!! كما تُشاهدونهم في وسائل التواصل والقنوات الموجَّهة!!
وإمَّا – وهذه الحالة الثالثة – وهي مِن الخطورة بمكان، أن يكون عالِمًا بالشريعة ودلالاتها، ولكنه جاهلٌ جهلًا مركَّبًا في كيفيَّة تطبيقها على الوقائع، مُغْفِلٌ للشروط والأركان؛ فيتخبَّط في ذلك، ويصبح تائهًا، ظانًّا أنه وَجَد الطريق!! وكلُّ ذلك عن جهل وحمق غالبًا، لا عن قصد، بل ربما طالبًا المثوبة والأجر والجَنَّة… وفي هؤلاء: أخشَى أن تَشْملهم الآية الكريمة ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 103 – 105].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والضحاك، وغيرُ واحد: هم الحرورية – يعني: الخوارج – ومعنى هذا كما جاء عن علي رضي الله عنه؛ أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلَت في هؤلاء على الخصوص. والعجيب في تأمُّل هذا الصنف أنَّه يفتن فتنةً عظيمةً بالكلام في الأشخاص شذبًا وقطعًا وسوء ظن، مبتدئًا بالحكام والعلماء في بلاد المسلمين، مختتمًا بالجندي والحارس على أعراضهم وأموالهم، بل ربما وَصَل إلى أقرب أقربائه كأبيه وأخيه وكفَّرهم وذمَّهم أو عرَّض بذلك، وهم في الحقيقة أتقَى وأنقَى منه عند ربِّ العالمين مُستدلًّا بآية أو حديث، جاهلًا في كيفية تطبيقها على واقع يعيشه… فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثانيًا: اتباع الهوى وإرواء الشعور النفسي بالنقص: وهذان متلازمان؛ أعني: اتِّباع الهوى، والشعور النفسي بالنقص؛ فعندما يَشعر المنحرفُ بشعوره بالنقص غالبًا يتَّبع هواه… ولا يعني هذا أن كل مَن اتبع هواه شعر بالنقص قبل اتِّباعه، ولكن هذه هي السِّمة الغالبة لمرضى القلوب أولئك…
قال الله عز وجل: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان: 43]، ومريض الهوى يكون سببًا في حجْب هذا العون، وذلك التأييد الإلهي للعمل للإسلام، بل يعمل على النقيض.
ولذا نجد أنَّ بعضهم لا يُجدي معه النصْح والإرشاد؛ بل يفتح على نفسِه مداخلَ للشيطان، وبابَ الابتداع في دِين الله، ثم يُصاب بالتخبُّط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم، والمصيبة عندما يتحوَّل إلى إضلال الآخرين، وإبعادِهم عن الطريق، ومِن ثمَّ يُحرم مِن توفيق الله عز وجل، وتكون خاتمتُه سيئةً. والعياذ بالله…
ثالثًا: الكِبر والتعالي:
هذا المنحرف غالبًا ما يكُون الكِبر قد أَخَذ منه مَبْلغه… ولذلك نرى أنَّ كثيرًا مِن المنحرفين فكريًّا لا يرى غيرَه سوى أمثالِ الذَّرِّ تمشي على الأرض والعياذ بالله، ويكفي في ذمِّ الكِبر قوله صلى الله عليه وسلم: ((يُحْشر المتكبِّرون يومَ القيامة أمثالَ الذَّرِّ في صُوَر الناس، يَعلُوهم كلُّ شيء مِن الصَّغار، حتى يدخلوا سِجْنًا في جهنم، يُقال له: بُولَسُ، فتَعلُوهم نارُ الأنْيَار، يُسقَون مِن طِينةِ الخَبالِ عُصَارة أهلِ النار)) رواه أحمد، والترمذي.
وأهمِس هنا في أذن الآباء والمربِّين، وأقول لهم: إنَّ كثرة مدْحك الزائدِ لهذا الابنِ أو الطالبِ بأنه فتى زمانِه، وعالمُ عصْره، وفريدُ دهْره، وشعورك بالارتياح حينما يُناقِش قضيةً مِن كُبرى القضايا، وتخطئة غيرِه وتَصْويبه، فإنَّ ابنَك هذا سيَقَع فريسةً سهلةً للانحراف الفكري، مالم يحفظه الله عز وجل، وهذا مُشاهَد محسوس. ولا يعني ذلك العكس بأن تستخدم أسلوبَ التهميش والتحطيم، كلَّا، وإنما أَعْطِه ما يكفيه لا ما يضره، كما تعطيه جرعة الدواء المناسبة حين مرضه.
ومَن يَجِد في نفسِه شيئًا مِن هذا الداء، فليعلمْ أن التواضُع هو مجامع حُسْنِ الخُلُق، وهو هدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِن أَحَبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامة أَحَاسِنكم أخلاقًا)).
رابعًا: البيئة والجُلَساء بما فيهم: الصاحب، والكتَّاب، والجهاز الذكي…
وهذه مؤثِّرةٌ تأثيرًا كبيرًا؛ ولذا حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن جليس السوء، ومجالسةِ أهل الباطل؛ لأنَّ العَدْوَى سريعةُ الانتقال، فالعاقل مَن يَفِرُّ عن المنحرفِ فرارَه مِن الأسَد… وبعضُ الشباب يتساهل في ذلك؛ معتذرًا لنفسه أنه سيُصلح الانحرافاتِ الموجودة… نَعَمْ عليك الدعوة، والمجادلة بالتي هي أَحسَن بشرط العِلم، ثم إذا لم يُلْقِ لك هذا المنحرفُ بالًا فلا تُهلك نفسَك بالإكثار مِن مجالسته – خاصة في المسائل الشرعية؛ فمَن لم يقتنع بكبار العلماء لن يقتنع بك أنتَ، وابنُ عباس رضي الله عنهما حاوَرَ وناظَرَ الخوارج، ورجَع منهم مَن رجَع، وبعد ذلك صفَّ جنديًّا مع عليٍّ رضي الله عنه… لم يستمرَّ في الجدال والمناقشة.
إنَّ أثَر الجليس خطيرٌ، سواء كان إنسانًا أو كتابًا أو قناةً أو جهازًا ذكيًّا، يُشَكل فِكْرك حسب ما يريد هو؛ فإذا كان منحرفًا فماذا ستصبح أنت!!
وانظر إلى هذا التشبيه البليغ منه صلى الله عليه وسلم حين قال عليه الصلاة والسلام: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ، وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لَا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ، إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً))[2].
إنَّ عمليَّة اختيارك لجليسك، أو كتابك، أو قناتك، أو مَن تُتابعهم، وتَدخُل مواقعهم… هي عملية تكوينٍ لِفِكْرك وشخصيَّتك أنتَ، شئتَ أم أبَيْتَ!!
قال علي رضي الله عنه: (الصحبة سارية، والطبيعة سارقة).
خامسًا: الشعور بالظلم:
لا شك أنَّ الشعور بالظلم سببٌ مِن مسبِّبات الخَلَل الفكري، ومِن أعظمِ الظلمِ ظلمُ النفسِ بالإسراف في المعاصي، والتي مِن أعظمِها: الشركُ بالله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، ثم ظلمُ الآخرين مِن البشَر، بغمْطهم حقوقَهم وسلبِها، فيُبتلى الظالمُ بنخرةٍ في قلبه، تجرُّه إلى الانحراف، خاصةً إذا لم يَتُبْ ويعطِ الناسَ حقوقَهم ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ﴾ [الشورى: 30]، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنَّ مَن يَشعر بالظلم مِن البشَر – مهما كان على درجة مِن الصلاح الظاهر – إذا شعر بالضيم يَتعلَّق بقشَّة – إلا مَن رَحِم اللهُ – لأخْذ حقِّه واسترجاعِه، ويرى في نفسه أنَّ كلَّ مَن وقف تجاه الظالم في أيِّ قضيَّة فهو على حق!! وتجبُ نُصْرتُه حتى لو كان أحيانًا منحرفًا فكريًّا، ومِن ثَمَّ يَنشأ التأثُّر؛ وقد بَيَّن ذلك شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله تعالى.
سادسًا: وسائل الإعلام:
وهذه مِن أخطر الأسباب للانحراف الفكري – وأقصد بها جميع وسائل الإعلام، بما فيها (الإعلام الجديد)؛ إذ من الحقائق الثابتة؛ أنَّ وسائل الإعلام تؤثِّر في الأفراد والمجتمعات، وجميعُ الإعلاميِّين في العالم يُقِرُّون بأنَّ الوظائف الرئيسة التي تؤدِّيها وسائلُ الاتصال الجماهيرية، وظيفة تكْوين الآراء والاتجاهات لدى الأفراد والجماعات والشعوب.
ولا يَشُكُّ عاقلٌ في أنَّ كل منظومةٍ أو منظمة أو حزب أو جماعة، تُكَرِّسُ أغلبَ جهودِها للدفاع عن فكْرها في تكْوين ترسانةٍ إعلاميَّة ضخمة، تُصْرف عليها أموالٌ طائلة…
وهذا ما يجب أن يَحذَر الشابُّ منه، خاصة مع التطوُّر الهائل للتقنية الحديثة… فالعقل اللاواعي للإنسان يُكَوَّن فكرُه مِن خلال رسائل الإعلام الموجَّهة، فيُصبح في يوم من الأيام مسلكًا لتمرير أهدافِ غيرِه…
وهذا المدخل هو مالم يُحسِن استغلالَه للأسف أصحابُ الفكْر، والتوجُّه السليم أحيانًا، فهم مُنشغلون دائمًا في الدِّفاع دون البناء الأساسي. وإذا كان السلف رحمهم الله لا يَقبَلون رواية المجاهيل، فكيف تُقبَل رواية وسائل الإعلام الموجَّهة، والمعرِّفات المجهولة؟ والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (الحجرات: 6).
سابعًا: الإحباط من واقع المسلمين المرير:
فإذا رأى الشابُ واقعَ المسلمين في كثيرٍ مِن بلادهم، وما هم عليه مِن فتنٍ، وقتْل وحربٍ، وتشريدٍ وآلامٍ، وتسلُّطٍ للأعداء… دَبَّ التحسُّر والألمُ في قلبه، وحُقَّ له ذلك وأصبح للشيطان مدخلًا عليه مِن جهتين: الأولى: الشك في موعود الله في النصر والتمكين؛ خاصةً إذا صاحبَ ذلك انبهارٌ بحضارة الغرْب المادِّيَّة، وبَريقِها الأخَّاذ، فتبدأ تَتَخَلَّل المبادئَ عنده شيئًا فشيئًا، فيبدأ بقراءةِ فلسفاتهم، كما يَقرأ لِكبار كُتَّابهم في ذلك… فينحرف انحرافًا فكريًّا، وينتج عنده خللٌ في المقدِّمات والنتائج؛ لأنه نسيَ، أو تناسَى شرْطَ النَّصْر والتمكين؛ ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]… إنه جهلٌ بالسُّنَنِ الشرعيَّة والكونيَّة، وجهلٌ بالتاريخ، وإرضاءٌ للرغبات والأهواء…
الثانية – وأعني بها الجهة الثانية مِن مداخل الشيطان للشابِّ المسلم إذا رأى واقع المسلمين: الاستعجال بالنصر، ومخالفة السُّنَن الكونية والشرعية في ذلك أيضًا، فتستغلُّه بعضُ المنظَّمات التي تكوَّنت عندها تصوُّرات فكريَّة مُعيَّنة، مِن قِبَل المجتهدين الجهَلة والحمْقى لِتطبيقِ الشريعة، أو المخترِقين لهم مِن أعداءِ الإسلام؛ تحت مُسمَّى الجهاد، وتطبيقِ شرع الله، فيستعجلون النصر، ويُخالِفون السُّنَن الكونيَّة، ثم يأخذ بهم الغُلُوُّ مَبْلَغَه…
ويقع مثل ما وقع من الجرائم الخطيرة في الأيام الماضية، ويُصبح العالَمُ كلُّه عدُوًّا لهم، فينقلب العالِمُ الشرعيُّ في نظرهم مِن مُوَجِّهٍ إلى عدوٍّ لَدُود، والجنديُّ المجاهدُ إلى مرتدٍّ مُرتَزِق، وتنشأ الفِتَن، وتعمُّ الفوضى، وهذا ما يسعَى إليه أعداءُ شريعة ربِّ العالمين، فهُم بذلك قد اختَصَروا الطريقَ لهم كما بيَّنتُ آنفًا… ولو أَدرَكوا فقط أن قيام الدولة الإسلامية في ازدهار عصرها – العصر الذهبي مِن أقاصي شرق الصين شرقًا إلى الأندلس إسبانيا غربًا – تَطلَّبَ وقتًا بَدَأه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الدعوة المكِّيَّة ثلاثَ عشرةَ سنَة، ثم عشر سنوات في المدينة، ثم تَمَّ الأمْر بَعد وفاته صلى الله عليه وسلم بتِسعِينَ سنةً تقريبًا مِن الإعداد والدعوة والجهاد… وهو نبيُّ اللهِ عليه الصلاة والسلام… أقول: لو أدركوا ذلك لَعَلِموا أنهم متخبِّطون، ضائعون، مستغَلُّون، وهم لا يشعرون…
إنَّ الفتح بالدعوة مقدَّم على الفتح بالقتال؛ لسببٍ واضحٍ جدًّا، وهو أنَّ هذا هو ما فعَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وفي عصرنا الحاضر مجالاتُ الفتح – مِن خلال الدعوة والفكر – أثبتَتْ ذلك.
ثامنًا: انشغال دُعاة أهلِ السُّنَّة والجماعة بالردود، وإغفال جانب البناء…
الرَّدُّ على المنحرفين فكريًّا وعقديًّا مِن أعظمِ القُرَب، وما ذاك إلا لأنَّ فيه الذَّوْدَ عن حِيَاض الشريعة، والدفاع عنها، بل ومِن الحِكَم أصلًا في مشروعية الجهاد – سواءً كان بالنفس، أو بالمال، أو بالكلمة – هي الدفاع عن دِين الله عز وجل.
هذه مقدِّمة مُسلَّم بها… لكنَّ الملاحظ على كثيرٍ مِن الدُّعاة والمربِّين والمعلِّمين للشباب، الاهتمام بهذا الجانب فقط، دون الالتفاتِ إلى البناء والتربية… والمتأمِّل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يَجِدُ أنَّه يَهتمُّ بالبناء كثيرًا… ولولا خشية الإطالة لذكرتُ كثيرًا مِن الأمثلة[3].
تاسعًا: عدم اهتمام المحاضِن التربوية الاهتمامَ الكافيَ باستغلال طاقات الشباب:
فالشابُّ الموهوب، صاحبُ الطاقة العالية، إذا لم يجد مناخًا خصبًا لإفراغها، فقد يُفرغها في مجالات منحرفة – خاصةً مع قِلَّة التوجيه – وهذا أمرٌ معروف، وليس عُذْرًا للشابِّ في الانحراف وتبريرًا له، فالشابُّ مكلَّفٌ ومحاسَب، لكن قد يكُون هذا سببًا في انحراف بعضهم…
إنَّ صرْف الطاقاتِ أمرٌ مهمٌّ، وأخطرُ منه أنْ يتمَّ التوجيه بشكلٍ خاطئ، ثم يَكتَشف الشابُّ أنَّه قضَى جزءًا مِن عمره في تفاهاتٍ، فيُحاوِل التعويضَ عن ذلك بانحراف أخطرَ منه… كمَن يَصْحو ويَغْفو على تحليل مباريات، أو فنٍّ وتمثيل، ثم يَكتَشِف تفاهة َمساره، فيُغيرِّه لأخطرَ مِن ذلك، كانحلالٍ فكريٍّ أو سلوكيٍّ… وبعضُ الشَّرِّ أَهوَنُ مِن بعض لا شك، لكن لو كان إفراغُ الطاقة الشبابية في شيءٍ مُثمرٍ لَمَا وَقع مثلُ هذا الخلل بإذن الله؛ لأن هذا الشاب سيَرضَى، ويَتصَالح مع نفسِه بخلاف الأَوَّل.
عاشرًا: تجاهل وإغفال المرجعيَّات الشرعية والعلماء الربانيِّين:
وهذا ملاحَظٌ؛ فكُلَّما تجاهَلَ الناسُ آراءَ العلماء بأيِّ حجةٍ كانت، أو شبهة أُضْرِمَت – كلما كَثُر الانحراف.
قديمًا طَعَنَ أعداءُ الإسلام في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نَقَلَةِ الشريعة، وبَثُّوا في الناسِ التهوينَ مِن شأنهم؛ والهدَفُ معروف؛ وهو الطعْن في الدِّين نفسه… ولمَّا بَرَزَتْ ظاهرةُ الاستشراق كان أوَّلَ مَن طُعِنَ فيه أبو هريرة رضي الله عنه، والسببُ واضح، فهو رَوَى أكثرَ مِن خمسة آلافِ حديث… ويتكرَّر هذا في كل عصر؛ حتى يُطعن في علماء الأمَّة؛ لأنهم هُم حرَّاس الفكْر، والعقيدة الإسلامية، بعد الله عز وجل…
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ، كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الهُدَاة)) رواه الإمام أحمد.
اللهم احفَظنا، وثبِّتْنا وذَرَاريَّنا، ومَن نُحِبُّ!!
[1] هذا المقال منشور في مجلة الجمعية السعودية لكليات المجتمع، محرم 1439هـ، عدد (2). (http://sacc.org.sa/)
[2] متَّفَق عليه.
[3] مثال ذلك: ما رواه البخاري ومسلم في قصة أبي سفيان – في قصة “هرقل” عظيم الروم – خير شاهد. قال هرقل: فماذا يأمركم – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – قال أبو سفيان: قلتُ: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصِّلة. فمع أَحْلَكِ الظروف في مكَّة، وتآمُر الكفَّار عليه، يأمُر بالصلاة والصدق والعفاف والصلة…
أضِفْ إلى ذلك – مع الإيجابية بشكل عام – الاهتمامَ بتكْوين العقلية المسْلمة، مِن حيثِ إدراكِ المقدِّماتِ على حقيقتها، وبناء النتائج بشكل سليم…