د. محمد بن إبراهيم السعيدي
حين شَرعْتُ في كتابة هذه المجموعة من المقالات كان تعريف “التوازن” عقبة تحول دون البدء في الكتابة؛ فالمصطلح جديد فيما يبدو لي في تراثنا الثقافي، والذين استخدموه مضافًا إلى الفكر لم يقصدوا به معنًى واحدًا: فمنهم مَن يستخدمه كوصف إيجابي لعملية التفكير التي تؤدي إلى نتائج صحيحة، فهو عنده مرادف تقريبًا لاستعمال المنطق في التفكير، وذلك عن طريق البحث عن مقدمات صحيحة للوصول إلى نتائج صحيحة.
ومنهم مَن يريد بهذا المصطلح: المعطيات العلمية التي تُبنَى عليها الأفكار الصحيحة.ومنهم من يريد به: الفكر المتوسط بين طرفي النقيض أو بين الإفراط والتفريط. فهو عند هؤلاء مرادف للوسطية.
ومنهم من يعني بـ “التوازن الفكري”: الفكر الذي هو عليه؛ فأفكاره متوازنة وأفكار غيره مختلة، وهؤلاء طائفة غير قليلة ليس في فكرنا العربي المعاصر وحسب، بل في الفكر والرأي العام العالميَّيْن.
أما ما أعنيه هنا أي في هذه المقالات بـ “التوازن” – وأرجو أن أوفق في الكتابة عنه –: فهو الابتناء على المعطيات الصحيحة في نظري لتكوين الأفكار، والاتزان لا يعني صواب الفكرة، بل صواب طريقة التفكير؛ فإن من مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة.
وقبل الاستغراق في هذا المعنى يحسن أن أبدأ في ذكر مفهومي للفكر؛ فإننا حين نستعرض كشافات الاصطلاحات العلمية القديمة نجد الناس بين عالِم ومتعلِّم وجاهل، وربما وجد في بعض الأوساط مصطلح المتكلم والفيلسوف، وفي العصر الحديث وُجِد مصطلحان ليس لهما وجود – حسب علمي – في تراثنا القديم، وهما”الثقافة” و”الفكر”، ويأتي منهما: المثقف والمفكر، ويحار الناس كثيرًا في تحديد معناهما، ومن ثَم يحارون في مواضع إطلاقهما.
وحديثنا عن الفكر خاصة؛ فالذي يظهر لي أن أكثر مَن يتعاطى هذا المصطلح في ثقافتنا العربية المعاصرة يريدون به: «التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما من حيث كنهه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرق تحسينه وعلاج آفاته».
وتقييد التصور بالإجمالي والتفصيلي ليشمل الإدراك بنوعَيْه عند المناطقة الذين يقسمون الإدراك إلى “تصور” وهو الإدراك المتجرد عن الحكم، و”تصديق” وهو الإدراك المتضمن للحكم.
والواقع يشمل الواقع الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمع ما. فكلُّ تصوُّر لهذا الواقع في أي جزئية من جزئياته يعدُّ فكرًا؛ ولهذا يمكن القول: إن الفكر بهذا المفهوم مشاع بين الناس فكل إنسان لديه تصور لما يحيط به مما ذكرنا، لكن الناس يختلفون في مكانة تصوراتهم باختلاف درجاتهم من حيث حصولهم على المعلومة ونوعية تعلمهم وبصيرتهم، إلى غير ذلك من الفروق الفردية بينهم.
وهذا الفهم لمعنى الفكر يتوافق إلى حدٍّ كبير ومفهوم علماء النفس الاجتماعي للرأي العام، وعليه يمكن القول إن الفكر يساوي في كثير من مظاهِرِه ما يسميه علماء النفس الاجتماعي وخبراء الإعلام بالرأي العام. وإن كان ثمة فرق بين الأمرين فهو أن الرأي العام قد يتضمن قضية تفرض على المجتمع إعلاميًّا أو سياسيًّا، وليست في الحقيقة من صميم اهتماماته، وربما لا تكون ضمن الأمور المؤثرة في حياته العادية، لكن وسائل الإعلام قد يكون لها مصلحة في فرضها على المجتمع، وهذا ما يحاول قادة الفكر دائمًا النأي بالمجتمع عنه، وذلك كي لا تكون انفعالات الأمة خادمة لأصحاب المصالح الخاصة.
وثمة فرق آخر بين الرأي العام والفكر؛ وهو: أن الأخير يُراد به تصورات نخبة معينة من المثقفين، أما الرأي العام فالكل يشارك في تكوينه، وهذا الفرق قد لا يكون دقيقًا، بل قد يكون غير مسلم به لأنه يحتاج إلى ضبط المراد بهؤلاء النخبة التي تستحق أن تستأثر بتسمية إنتاجها الذهني فكرًا، مع أن البشر بشكلٍ عام لديهم نزعة فطرية نحو الحق، بمعنى أن الجميع يريد الحق فيما يعرض له من قضايا، ولا فرق في ذلك بين النخبة وغيرهم، بل قد تكون النخبة أقل ميْلًا إلى الحق من عامة الناس، باعتبار أنهم أكثر تعرُّضًا للهوى الفكري والانتماء المدرسي من غيرهم، أما من سواهم فإن لديهم تسليمًا لا شعوريًّا بأنهم لا يمتلكون أدوات معرفة الحق في القضايا المتعلقة بالتصورات التفصيلية للواقع، ومن ثَم الحكم من خلالها؛ وذلك لأن مصدر المعرفة المتفق عليه هو الحس أو ما يقوم مقامه، فلما كان الحسّ متعذِّرًا في الغالبية الساحقة من قضايا الحياة العامة إلا على أناس محدودين جدًّا، فإن الغالبية الساحقة يعطون ثقتهم لمن يتصورون أنه قد وصل إلى المعلومة بطريق الحس أو بأقرب الطرق إلى الحس، وأن هذا الموثوق صادق معه إما لملازمته لصفة الصدق أو لأنه صاحب مصلحة في الصدق، ولعل قول الله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 187] يصدق هذه الفكرة، فالناس بشكل عام ليس لديهم أدوات العلم بمعنى القطع والتحقق مما يسعون إلى التحقق منه.
ولهذا نجد أن إقبال الناس على القيادات الفكرية إقبال طبعي، لا يحتاجون إلى مَن يدلهم عليه بل ربما صح القول بأنه فطرة، فالناس إذا لم يجدوا أمامهم مؤهلًا لقيادتهم فكريًّا صنعوا لهم قائدًا على مواصفاتهم الخاصة، ولعل هذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا»
ولك أن تتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: «اتخذ الناس» فالناس إذا لم يكن المؤهل لقيادتهم فكريًّا أمامهم اتخذوا من تلقاء أنفسهم قائدًا فكريًّا ولو لم يكن مؤهلًا، والناس يعرفون الموهوب والذكي ومَن يملك القدرات الثقافية والخطابية التي تمكِّنه من التأثير وجذب الأتباع، لكن ليس كل مَن يستطيع تكوين قاعدة جماهيرية بهذه الصفات هو الأمثل حتمًا لقيادة الأمة فكريًّا.
ولعلها تتاح مناسبة للحديث عن الأمثل للقيادة الفكرية، وإن كنت قد تطرقت لشيء منه في برنامج ساعة حوار على قناة المجد الفضائية.