محمد أيمن عاشور
رسائلي الخمس إلى ابنتي…
الرسالة الأولى
ابنتي الغالية:
أكتب إليكِ من دنيا الانتظار، وعالم اللهفة والشوق الكبير لقدومكِ السعيد، أكتبُ إليكِ وأنت الآن تنعمين بالقرب من أطيب قلبٍ، وأصفي ضمير، تتغذين من مهجةٍ لا تعرف إلا الحب والإخلاص والعطاء، وسادتك نبضةُ رأفةٍ وحنان، وغطاؤك فيضُ دفءٍ وأمان، سريرك الرحمةُ والعطفُ المنبثقُ من لذة المعاناة، والمتعةُ المنبعثةُ من التعب جراء حملك الموهن، فهنيئًا لكِ عمرك السعيد، وإقامتك المميزة، وهنيئًا لكِ نعمة القرب من نبع الحب الصادق الوفي.
ابنتي الغالية:
مع أن وسائل الاتصال بين عالمنا وعالمكِ الآن لا تزالُ غير مكتشفةٍ بعد، ومع أنني سأنتظرُ وقتًا طويلا حتى تستطيعي قراءة كلماتي، غير أني أكتبُ إليكِ ليقيني بأنَّ دلائلَ أحرفي ومعاني كلماتي ستصلُ إليك عبر دقاتِ ذلك القلب الكبير الذي تجاورينه الآن، ومن خلال نبضاتِهِ غير المزعجة أستطيع إيصالَ رسالتي القصيرة إليكِ والتي أقولفيها:
(نحن ننتظركِ على المحطة نفسها التي ودعنا فيها أربعةً من إخوتك وقد غادرونا عند الوصول، وأنا أتمنى أن تمكُثي معنا أنا وأمكِ حتى نكونَ نحن المغادرين، فيا ليتكِ تفعلين).
الرسالة الثانية
ابنتي الغالية:
علمتُ بالأمس أن قلبك الغض قد بدأ مشواره الطويل بإذن الله، فقد سمعتْ أمك وللمرة الأولى دقات قبلك الناعمة تعلنُ روعة الانطلاق نحو عالم الإحساسات الجميلة، ويكاد الفرحُ بهذا الإحساس يعقدُ لسان أمك ويحقُ لها ذلك، كيف لا وقد اختصها اللهُ سبحانه بهذا الفضلِ فأتاح لها الاستماعَ والإحساسَ معًا بنبض قلوب الأبناء، ولقد أثار عندي هذا النبأُ المفرح شيئًا من الغيرة، وحرك رغبتي إلى الحديث إليك كي أوصيكِ بحسنِ اختيار أنغام تلك الدقات الناعمة، فدقاتُ القلب أيتها الغالية لها أنواع وأنغام، بعضها محببٌ لذلك الخافق يؤديها بكل ارتياحٍ وهدوءٍ وانتظام، وبعضُها يضطرُ لأدائِهِ مع أنه كارهٌ لها كلَّ الكُره، فيضطربُ ويتعكرُ أداؤهُ ويتسارعُ انقباضُهُ بكل انزعاج، فالقلبُ أيتها الغالية أحدُ أجزائنا المخلصةِ الوفية، التي تجمعُ ما بين الروح والجسد، وفي دقاتِهِ نستودعُ أسرارنا، وفيهِ نخبئُ أفراحنا وأحزاننا، وإليهِ نعود بالمشورة والاختيار، ونرضى منه ما لا نرضاه من غيره، فنستجيبُ لأوامرهِ ونحرصُ على تحقيق أمانيه مع أنهُ أحيانًا ودون استئذانٍ منا يتمردُ ويعزفُ لنا نغمًا عنيفًا متسارعًا يهزُ أعماقنا فنتجاوبُ معه بكل كياننا… أتدرينَ ما السببُ ومتى يكون ذلكَ أيتها الغالية؟
إن ذلك النغم تتقنه قلوبنا غايةَ الإتقان، وتجيدُ أداءَهُ بألف لونٍ ولون، إنهُ نغمُ الحب الصادقِ للطاهرِ والجميلِ والنقي من الأشياء والعوالم التي تحيطُ بنا في هذه الحياة، وإنه لمن الظلم العظيم، والجور الظاهر أيتها الغالية أن تجعلي قلبك أسير لونٍ يتيم، ونغمٍ واحدٍ للكره، مع أن بإمكانه أداء ألف لونٍ ولون وألف نغمٍ ونغم………كلها للحب.
الرسالة الثالثة
ابنتي الغالية:
هذه رسالتي الثالثة إليك، ولقد علمتُ من جواب الرسالة الثانية الذي أحستْ به أمك ونقلَتهُ إلي، علمتُ أنك بدأتِ الآن تتحركين بكثرةٍ، وبشيء من العنف، فرفقًا بأُمك أيتها الغالية، والصبرَ الصبر؛ فالأيام القادمة ستضمنُ لك ملعبًا أكبر……. لكنه ليس أكثر أمنًا، والأشجار ستهدي إليك ظلا أوسع…. لكنه ليس أكثر حنانًا، وستشربين من دفق الينابيع ماءً عذبًا لكنه ليس أعذب ولا أطيب مما تشربين الآن، والأفق سيغدو أكثر اتساعًا أمام عينيك، لكنك ستضطرين للبكاء أحيانًا، وهذا فنٌ لا تتقنينه الآن، فلم كل هذا التبرمُ والضيق؟ أم أنه الغزل؟! وللغزل عند الصغار مذاهب لا يخلو بعضُها من العنف؟؟!!
اسمعي أيتها الغالية:
نحن نكفرُ النعمةَ في أثناء وجودها ونتحسرُ عليها بعد زوالها، فلا تكوني مثلنا، فملعبُكِ الآن –مع ضيقه- لك وحدك، وعندما يغدو أكثر اتساعًا فلا بد من مشاركة غيرك فيه، والشريكُ قد يجهل أحيانًا قوانين اللعب، أو قد يخالفها فيؤذينا ونتمنى عندها لو أن ملعبنا كان أضيق ولم يتسع لغيرنا، وظلالُ الأشجار أيتها الغالية قد تخوننا في أثناء غفوتنا فيفاجئنا وجهُ الشمس الغاضب بحرارته التي تعجزُ عن تلطيف حدتها أوراقُ الشجر فمِنْ أين عندها ستستجدي الحنانَ والظلالُ لم تعد تملكه؟! والينابيع قد يغزوها التلوثُ فلا المياهُ عذبةٌ دائمًا، ولا الأفكارُ سليمةٌ باستمرار، ولا الحنانُ صادقٌ دومًا، فمَنْ تراهُ يستطيعُ تنقيةَ كلَّ تلكَ الينابيع لكِ؟! وأما الأفق يا ابنتي فقد يُعكرُ صفوَهُ منظرُ طفلٍ يتألم، أو شيخٍ يشتكي، وقد يحدُّ من اتساع المدى لدرجةِ الاختناق ضيقُ بعض الهياكل البشرية المحشوة بالجشع والطمع، والمنتفخة بالحقد والعنف، عندها سيُعكرُ منظرَ الأفق طعمُ الدموع في عينيك.
وأعود لأسألكِ: لمَ كلُّ هذا التمرد على الزمان والمكان الذي تشغلينهُ الآن؟ ولمَ كلُّ هذا التسرع والرغبة في القدوم إلى عالمنا؟ مهلا……..مهلا أيتها الغالية فغدًا ستتمنين –مثلنا– لو كان الزمانُ بلا انتهاءٍ في ذلك المكان المشبع بالأمن والهدوء والحنان.
الرسالة الرابعة
ابنتي الغالية:
هذه آخر رسائلي إليك على عنوانك الحالي، فلقد علمتُ أنك ستُغيرين عنوان إقامتك قريبًا بإذن الله، وأعرف تمامًا أن رحلتك نحو عالمنا رحلةٌ صعبةٌ جدًا، ومؤلمةٌ لدرجةٍ تُضطرين فيها لبدءِ مشوار الإقامة بحفلة بكاءٍ صاخبةٍ، وهو سلوكٌ لم تتعوديه من قبل، أما نحن فقد صرنا نلجأُ إليه كثيرًا بعدما عرفناه، فكلُّ من سبقك أيتها الغالية فعل مثلك غير أننا جميعًا نسينا لماذا بكينا أول مرة، ونسينا كم استمر بكاؤنا، وما الذي أقنعنا بالتوقف عن البكاء، هل كان الماء الذي أزال عنا آثار السفر؟ أم هو الثوب الأبيض المزركش بأحلام الأمهات، والذي ستر أجزاءنا بعدما اكتشفَ الجميعُ إلى أي الجنسين سنشتاقُ ونسكنْ؟
عبثًا –أيتها القادمة كالعيد- عبثًا نحاول أن نتذكر سرَّ بكائنا الأول، أو إيجاد تفسيرٍ مقنعٍ لأول دمعةٍ غسلنا بها وجهنا!!!
بنيتي الغالية:
ستضطرين مبدئيًا لاستخدام البكاء بمنزلة نصف اللغة التي تُجيدين، ونصفها الآخر الابتسام، فعندما تشعرين بالجوع أو الألم، أو عندما تقومين بفعلٍ مخجل لن تجدي أبلغ من البكاء للإفصاح عن حاجتك أو لإعلان الندم على ما فعلتِ، وعندما تناغيك أمك أو تداعبك أيدي الجدات عندها ستقرعين جرسك السحري وتبتسمين ليغدو للضحك معنى جديد، وألفُ ألفُ دمعة انتظارٍ تنساها عيوننا برؤية وجهك السعيد.
ابنتي الغالية:
سأختصر الكلام حتى لا أضيع عليك متعة استكشاف عنوانك الجديد بيننا، ولكي تتمكني من إنهاء طقوس الوداع عندك، وأظن أن البكاء أحد تلك الطقوس التي تعودنا تكرارها عند كل وداع، كل المسافرين –أيتها الغالية- يحملون حقائب للسفر إلا أنت فالحقائب بانتظارك خبأنا فيها كل الأحلام والأماني والدعاء الصادق بسفرٍ آمن إلى دنيا والديك المشبعة بالشوق والانتظار والكثير. الكثير من طقوس الوداع.
الرسالة الخامسة
ابنتي الغالية وقد أسميتك بـ(ابتهال):
اعذريني لأنني لم أكن في انتظاركِ لحظة الوصول السعيدة، كنتُ أعلمُ أنك خلال هذه الأيام ستصلين، وحاولتُ جمع حقائبي واختصار أيامَ غربتي كي أكون بانتظارك إلى جانب أمك، إلا أن حقائبي تبعثرت، وأيام غربتي تثاءبت، فتسربلتُ بالسكون وبشيءٍ من الصمت، والكثير الكثير من الفرح وأنا أتلقى نبأ الوصول الآمن ولله الحمد بينما يغصُ حلقي بألف دمعةٍ ودمعة.
لست أدري أيتها القادمة كأروع ما يكون القدوم، لست أدري كيف أصفُ لك مشاعري وهي الخليطُ المتآلفُ ما بين الفرح والحزن، فتارةً يتطاول فرحي أغصانًا طفوليةَ الأحلام، وتارةً أستسلمُ لآلام الغربة التي حرمتني ساعات الانتظار الرائعة برغم امتدادِ ثوانيها عمرًا طويلا من القلق واضطرابِ الأعصاب والخوف المختلط بالأمان، إلا أن الفرح المخبأ في رحم اللحظات الأخيرة يُنسينا تعبَ الانتظار الطويل.
بنيتي ابتهال:
ربما تأخر اللقاءُ قليلا، وزاد شوقُ عينيَّ للاكتحال بنور وجهك البريء، إلا أنك -برغم هذا البعد- في قلبي تسكنين، وحتى ذلك الحين هنيئًا لك صدر أمك الحنون وحضنها الدافئ الأمين.