عبد الحليم قنديل
العدالة هى القتيل الأول فى العالم الذى نعيشه .
وربما يكون الموت بسبب فيروس “كورونا” ، ومع الجائحة التى عبرت الدنيا من شرقها إلى غربها ، وبالعكس مع اتجاهات الريح السموم ، هى وجه العدالة الوحيد القائم اليوم ، فهى لا تفرق بين دولة أعظم ودولة أصغر ، ولا بين غنى ولا فقير ، ولا بين سكان القصور وسكان القبور ، ولا بين المحتمين بالكمامات والبذلات الواقية ، والمحتمون بجلودهم فوق العظام الناتئة ، الكل مرعوب ، والكل خائف من قدر “كورونا” ، مع أن الموت هو الحقيقة المطلقة فى حياة كل إنسان ، والكل يعرف أنه صائر حتما إلى فناء ، لا تكون بعده قيامة إلا فى ساعة الآخرة .
ربما الفارق ، أن وقائع الموت يسبب “كورونا” معلنة ، وتزحم الأبصار كل يوم وساعة ودقيقة وثانية ، بجداول وأرقام وإحصاءات وألوان وخانات ، ودقات بورصات تحصى الناجين والضحايا ، لكن الذعر كامن فى الغموض المسكوت عنه لا فى المعلن ، تماما كما فى قصة “وقائع موت معلن” للروائى اللاتينى الأشهر جابرييل جارثيا ماركيز ، فى القصة جريمة قتل لسانتياجو نصار ، شاب من أصول عربية ، يخدم فى مزرعة لعائلة متوسطة فى ريف كولومبيا ، والوقائع عادية شائعة فى أرياف الدنيا كلها ، فرية صغيرة من فتاة فى ليلة زواجها ، أرادت بها تبرير فقدانها لعذريتها ، الذى اكتشفه زوجها المصدوم ، وجرها من شعرها إلى بيت أهلها ، وتحت مطارق العقاب العائلى ، إدعت “أنخيلا” أن “سانتياجو” هو الذى فعلها ، وكان على شقيقيها غسل العار ، فاصطحبا سكينين كبيرين لقتل سانتياجو، وأخبرا الجزار وبائعة الحليب بنيتهما ، وجاء رجل شرطة متكاسل ، أخذ منهما السكينين ، ناعتا كليهما بالسكارى ، فأحضر الشقيقان “بابلو” و”بيدرو” سكينين آخرين ، ودارا على كل سكان القرية ، وأخبروهم بنية القتل الأكيدة ، ولم يبق من أحد لا يعلم إلا “سانتياجو” نفسه ، الذى كان يزور خطيبته ، وكانت تعلم كالآخرين ، ولم تشأ أن تخبره ، ربما لأنها كانت تغار ، وترى استحقاقه للقتل ، بسبب عشقه الموهوم للمدعية عليه كذبا ، وهكذا كان كل شئ معلنا ، ومن دون أن يتحرك أحد لمنع وقوع الجريمة ، وإلى أن جرى طعن “سانتياجو” ، وحمل أحشاءه إلى سرير نهايته ، وحكمت المحكمة ببراءة الشقيقين بعد مداولات قصيرة ، فلا دليل ولا شاهد رؤية فتح فمه ، وقيدت الجريمة ضد مجهول .
هكذا هو “الموت المعلن” فى مقتلة “كورونا” المستجد ، فلا أحد يعرف بالضبط سبب ظهوره ، ولا السر فى سرعة انتشاره ، وغزواته الصاروخية التى تلف الدنيا ، وتنشر رعبا بلا مثيل ولا سابقة ، كل ما هنالك تفسيرات ونظريات ، تتساوى فيها أحاديث وخرافات المؤامرة مع اكتشافات العلم ، وكل ما عرف عنه هو حجمه المتناهى الصغر ، الذى لا يرى سوى بتليسكوبات الكترونية فائقة القوة ، تستطيع أن ترى الفيروس بحجمه الحقيقى ، وهو واحد على 125 مليون جزء من المليمتر ، ليس كائنا حيا ، بل جزء من “آر . إن . إيه” خلية ، جزء ميت من تركيب جينى لخلية مجهرية ، لكنه الميت الذى يرعب الأحياء ، ويميتهم نفسيا ، قبل أن يميتهم فعليا ، عند تمكنه من سكن داخل خلايا الرئة ، يسطو على خلية ليحيا فيها ، ويحولها إلى كائن مجنون ، يتكاثر بسرعة ، ويؤدى إلى تليف وغلق الرئتين ، وكلما قلت المناعة زاد خطر الزائر القاتل ، والتعرف بدقة على تركيبه الجينى ، قد يقود بعد شهور طويلة إلى صنع لقاح ، يسعى الناس إلى شرائه للتحصين ، ربما بعد أن يكون قد ظهر فيروس آخر متحور ، من عائلة كورونا أو من سواها ، أو أن يكون قد عاد هو نفسه فى زيارة رعب جديدة ، يقول خبراء أنها قد تكون فى خريف العام الحالى ، كل هذا يقال ، وأكثر منه ، بما لا يتسع له حصر ، ولكن من دون أن نعرف سببا لظهور القاتل ، أو لماذا تغير اسمه وتغيرت صفات ومهارات القتل فيه ، من “سارس” إلى “ميرس” إلى “كوفيد 19” ، فنحن نرى الجريمة بعد أن وقعت ، لكننا لا نعرف لماذا وقعت وكيف ، ويظل “الموت المعلن” بلا سيناريو مؤكد ، تتساوى فى البحث عنه كل التخمينات ، فهل هى حرب جرثومية مدبرة ؟ ، من أمريكا أو من الصين ، أو من فعل الشياطين ، رواية الحرب الجرثومية واردة نظريا ، ويستطيعها أحقر جيش فى العالم ، لكن أحدا لم يترك لنا دليلا ، ونظرية غاز “السارين” أيضا واردة ، لكنها لا تفسر سبب وجود “فيروس” فعلى تحت المجهر الإلكترونى العملاق ، ونظرية ازدحام المجال “الكهرومغناطيسى” حول الأرض هى أيضا واردة ، فالعالم يضج بشبكات الرادار ، ومئة ألف قمر صناعى تدور حول الأرض ، وحزام الركام الكهرومغناطيسى قد يقتل الكائنات الحية ، ويدمر توازن الطبيعة ، ويفتت الخلايا الحية ، وينثر أجزاء من التركيب الجينى للخلايا فى الهواء ، وتلك هى الفيروسات كما يقول البعض ، تظل معلقة إلى أن تحين نوبات الهجوم ، ونشر الذعر الذى لا يبدو له آخر ، مع رعب مضاف ، تغذية القوة الهائلة فى وسائط الاتصال السمعى والبصرى ، وإضافة تفاسير ما أنزل الله بها من سلطان ، فيما لا يملك غالب الناس غير الاعتزال والدعاء وشراء الدواء.
نعم هو “الموت المعلن” ، والجريمة المقيدة دائما ضد المجهول ، فيما لا يلتفت أحد عادة إلى الموت المخفى معلوم الأسباب ، فقد بلغت وفيات كورونا إلى اليوم فوق الخمسين ألفا ، ونجت الصين مبكرا ، فيما صارت أمريكا هى مركز الوباء الأعظم ، تليها دول أوروبية على رأسها إيطاليا وأسبانيا ، وفى الوقت الذى كان “كورونا” يستشرى ، ويحصد أرواح عشرات الألوف ، غالبهم من كبار السن الأقل مناعة ، كان عدد الناس الذين يموتون بأمراض أخرى أكبر بكثير ، كان السرطان مثلا ، يحصد أرواح نحو مليونى إنسان ، إضافة لأمراض أخرى قاتلة عديدة ، بينها بعض مضاعفات الإنفلونزا العادية ، وإصابات التنفس تقتل مليونين ونصف المليون سنويا ، فضلا عن القتل المباشر بغير انتظار المرض ، فكل ضحايا “كورونا” ، حتى لو زادوا إلى أضعاف ما هم عليه الآن ، لا يساوى أعداد القتلى فى حرب صغيرة ، فما بالك بحروب ، نعرف نيرانها ودواعيها وتجارها فى منطقتنا العربية المنكوبة بالذات ، قتل فيها مئات الآلاف ، بل والملايين ، بطلقة رصاص أو بصاروخ كروز أو بقطع الرءوس ، ومن دون أن ترتعب الدنيا ، أو أن ترخى جفنها ، ومن دون أن تتوقف تجارة السلاح ، أو تنخفض معدلاتها ، بل تزيد على نحو جنونى ، وتبلغ عوائدها تريليونات الدولارات ، ومن دون أن يهتز للكبار رمش ، وهم يتركون الناس ضحايا للفقر والجوع ، ويخدمون اقتصادا رأسماليا متوحشا ، يجنى العالم آثاره الكارثية ، ويتلطى فى الظلم القاتل بأكثر من فعل أى فيروس ، ويكفى أن نعلم بعض الحقائق المريعة عن العالم الراهن ، الذى صدعوا رؤوسنا بالكلام عن تقدمه وديمقراطيته وإنسانيته المدعاة ، فواحد بالمئة من سكان العالم يملكون نصف ثروته الإجمالية ، وأكبر 26 مليارديرا يملكون ما يساوى ثروة النصف الأفقر فى العالم ، أى أن 26 شخصا يملكون ما يساوى عوائد عمل أربعة مليارات إنسان ، و 806 مليون إنسان على حافة الموت اليومى لنقص الغذاء ، و 8500 طفل يموتون بالجوع كل يوم ، أى أن أكثر من 25 ألف طفل يموتون جوعا كل ثلاثة أيام ، و250 ألف طفل يموتون بالجوع شهريا ، فيما يبدو الموت بسبب “كورونا” متصاغرا بالقياس ، فهو موت معلن مشهر من دون معرفة السبب الأصلى ، بينما الظلم الاقتصادى والاجتماعى يحصد الملايين دوريا ، ومن دون أن يبكيهم أحد، أو أن يصيبه الهلع من هذا الموت المخفى عمدا ، فما زادت ثروة غنى إلا من فقر فقير ، وما ضاعت حياة الأغلبية ومرضت وشاخت ، وزحفت مبكرا إلى قبور ، إلا بسبب جشع وسرقة وظلم وطغيان سكان القصور .
وبالجملة ، غياب العدالة هو القاتل الأعظم ، يقتل الناس خفية وجهرا ، ويجعل الموت الظالم هو غاية أقدارنا ، والمبتدأ والخبر ، وبالعكس تماما من “الموت المعلن”، بسبب “كورونا” وغيرها ، وهو الموت الأكثرعدالة نسبيا ، إذ يساوى بين الكافة فى الرعب على الأقل ، لكنه كعادة العالم المتوج بالظلم ، لا يميت إلا الأضعف مناعة ، وقتلاه فى الميزان ، هم الأقل عددا والأكثر ذكرا ، بينما ضحايا “الموت المخفى” ، يموتون خفية ، ويذهبون بصمت من قبر إلى القبر.
kandel2002@hotmail.com