بقلم الدكتور عبد الحليم قنديل
” الشرق شرق والغرب غرب .. ولن يلتقيا أبدا” ، عبارة ذائعة للأديب البريطانى “روديارد كبلينج”، وكان شاعرا وناثرا وقاصا وروائيا لامعا ، حصل على جائزة نوبل عام 1907 ، ولد فى “بومباى” الهندية لعائلة كولونيالية ، ومات أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ، ودفن فى لندن بعد حرق جثمانه كوصيته ، ووصفه جورج أورويل بأنه “نبى الامبراطورية” ، وكان “كبلينج” على موهبته استعماريا متغطرسا ، يروج لما أسموه “عبء الرجل الأبيض” ، كصيغة لتبرير غزوات الاحتلال الاستعمارى ، وشن حروب قتلت مئات الملايين ، واعتصار موارد شعوب الشرق والجنوب ، ونزح فوائض القيمة التاريخية ، وإضافتها لأرصدة مراكز الغرب ، ومضاعفة قوته المنتفخة على حساب الضحايا ، وبدعوى تحرير الشرق من تخلفه ، فليس فى الشرق عند كبلينج وأمثاله ، سوى أكوام من البلادة والقذارة والجهل الأبدى ، مع فوائض سحر وغموض وغرائب فى الطبيعة والتقاليد ، قد تفيده استثماريا ، فى كتابه قصص يزهو بها على منافسيه ، وتضيف إلى مكانته فى الفخر بالامبراطورية البريطانية ، التى كانت لاتغرب الشمس عن أملاكها ، قبل أن تنتهى إلى الظل مع حرب السويس ، وتغرق فى ضباب المصائر المعلقة .
و”كبلينج” ليس سوى مثال فاقع ، يوجد مثله العشرات البارزين ، ربما المئات من الغربيين ، الذين واكبوا صعود الامبراطورية البريطانية ، ثم الزمن الامبراطورى الأمريكى ، الذين استباحوا إهدار كل قيمة إنسانية ، وحصروا التفوق فى الغرب وفى رجله الأبيض ، وفى ثقافة الغرب القائمة على حد المنفعة ، والمنفعة الاقتصادية وحدها فى الغالب الأعم ، وجعلت من إنسانها إنسانا للتملك ، تدور حياته كلها حول الأشياء ، وتخلو من الناس ، وإذا كان التملك هو خطيئة الغرب ، كما يقول “إريك فروم” ، وكان عالم اجتماع أمريكى من أصل ألمانى ، فإن الكينونة ـ يقول “فروم” ـ هى فضيلة الشرق ، إنسان التملك يأخذ دائما ، ويبحث عن المزيد ، أما إنسان الكينونة فيعطى دائما ، ويفسر فروم معنى الكينونة بالصورة البليغة التالية “حين يسقط الضوء على زجاج أزرق ، فإننا نرى لونه أزرقا ، لسبب بسيط ، هو أنه يمتص كل الألوان الأخرى ماعدا الأزرق ، ومعنى ذلك ببساطة ، أننا نصف هذا الزجاج بالزرقة ، لأنه لا يحتجز الموجات الزرقاء ، أى أنه يعرف لا بما يملك ، ولكن بما يعطى” ، انتهى الاقتباس من”فروم” ، لكن الفارق بين الشرق والغرب لم ينته ، فالطابع الروحى فى الشرق غلاب ، والطابع الوثنى يسود الغرب ، برغم اعتناق الغرب فى غالبه للديانة المسيحية ، ولكن بعد تفريغها من معانيها ، كان السيد المسيح بطلا للمحبة ، وهب حياته من أجل الرب ، ومن أجل رفاقه ، كان بطلا بغير سلطة قوة ، أما البطل فى خيال الغرب السائد المعاصر ، فهو البطل الوثنى الذى يشبه أبطال الإغريق والرومان ، يغزو وينتصر ويدمر وينتفخ غرورا ، وقد ينطبق على التاريخ الغربى الحديث ، وصف القديس أوغسطين للتاريخ الرومانى بأنه “تاريخ عصابة من اللصوص” .
هذا هو المعنى الأبرز لدور الغرب الأوروبى والأمريكى فى تاريخ الإنسانية الحديث والمعاصر ، ومن دون إنكار بالطبع لأدواره الريادية فى العلم والتنظيم والكشوف والتكنولوجيا ، ولا لظهور اتجاهات إنسانية راقية ، عند بعض مفكريه وتياراته ، لم يتح لها غالبا أن تكون فى مواقع سلطة وتوجيه ، تحد من انتفاخ الغرب العنصرى ، ورغباته العارمة فى التملك والسيطرة ، وشهواته الحارقة فى إذلال الشرق ، وتحقير تدينه وروحانياته ، وإدامة الاستعباد التاريخى ، الذى لم يمنع الشرق فى النهاية من التحرر الذاتى ، والنهوض العارم قبل وبعد المعجزة الصينية ، وتقديم مثال آخر للشرق المتقدم ، الذى يملك ناصية العلم والتصنيع والتكنولوجيا ، ويؤكد تفوقه على عنجهية الغرب ، ومن دون أن يفقد روحانياته ، ولا أن يسقط فى فخ “الفردانية” الغربية المفرطة ، ولا أن يفرط فى قيمة أولوية الجماعة وسلامتها ، وعلى نحو ما جرى فى مباريات الحرب العالمية الراهنة ضد جائحة “كورونا” ، فالفارق فى المحصلة هائل لصالح الشرق الجديد المتقدم ، ليس فقط فى المثال الصينى ، الذى هزم الجائحة مبكرا ، وقد بدأت على أراضيه ، وأنهاها بمزيج من سلطة مركزية وتقنيات تكنولوجية مذهلة ، كان غيابها كفيلا بتدمير الصين الأكثر سكانا على وجه الأرض ، وشل اقتصادها الأضخم بامتياز ، ولم يكن التفوق الشرقى حكرا على الصين ، بل امتد لعواصم شرق متقدمة ، تتبنى نظما سياسية متغايرة عن النظام الصينى السلطوى ، وتحكم بوسائل الديمقراطية التعددية ، كما جرى فى تجارب كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة واليابان ، فلم تلجأ كوريا الجنوبية إلى إغلاق شامل على طريقة الصين ، وفضلت مسحا واسعا ، استعان بتطبيقات تكنولوجية متطورة ، ألزمت غالب المصابين بالحجر الصحى المنزلى ، مع دورات تعقيم يومى شامل لكافة المنشآت ، وهكذا فعلت “تايوان” الصينية ، مع استعداد أوفر ونظام صحى أرقى ، بنته تايوان بدروس الاستفادة من مصائب وباء “سارس” عام 2003 ، وشئ من ذلك جرى فى اليابان وسنغافورة ، وحيث لم يجر اللجوء غالبا إلى إغلاق كامل ، وكانت النتائج مبهرة وسريعة ، قياسا إلى ما جرى فى الغرب عموما من ذعر وانهيارات بالجملة ، ربما باستثناء المثال الألمانى الممتاز ، فقد تحولت أمريكا إلى الفريسة الأسهل للجائحة ، واستأثرت وحدها بثلث إجمالى المصابين فى الدنيا كلها ، وبما يفوق الربع من أعداد الوفيات بالوباء ، برغم أن عدد سكان أمريكا خمس عدد سكان الصين ، وبرغم أن عدد سكان كوريا الجنوبية قريب من عدد سكان إيطاليا ، والأخيرة هى الفريسة الأوروبية الأشهر ، تماما كأسبانيا التى نافست إيطاليا فى الخسائر البشرية ، وعدد سكانها متقارب مع مثيله فى كوريا الجنوبية ، التى لم تعد تسجل إصابات جديدة إلا فى القليل النادر، وقد كانت كوريا جزء من تاريخ الحضارة الصينية ، وتعرضت لما تعرضت له الصين من إذلال استعمارى غربى طويل المدى ، بحروب الأفيون وما قبلها وما بعدها ، وربما كان عنف الإذلال ، هو ما ولد بالمقابل ، قوة الانطلاق الصاروخى للشرق الجديد المتقدم ، التى أطاحت بأراجيف الغرب العنصرية ، ونظرياته المريضة عن تخلف الشرق الأزلى الأبدى ، وعن المعنى الرسالى الموهوم لعبء الرجل الأبيض ، وكلها تصورات سقطت بالجملة فى امتحان الكورونا ، كما فى اختبارات ومباريات التجارة العالمية ، التى خرجت أمريكا منها مهزومة أمام الصين بعد اليابان ، برغم توالى استخدام واشنطن لعضلاتها العسكرية كقوة إخضاع لآخرين ، لم تعد من بينهم عواصم الشرق الجديد المتقدم ، ليس فقط بالامتياز الصناعى والتكنولوجى ، بل بنسق قيم آخر ، أضفى على التقدم روحا إنسانية مختلفة ، تقدم معنى المجتمع والأسرة على المصالح الفردية والطبقية الضيقة ، وتعلى قيمة الانضباط السلوكى الطوعى ، وتطور قيمة الاعتماد على الذات ، وتعمم تطبيقات التكنولوجيا الذكية فى الحياة العامة ، وتبنى نظم قوة دفاعية ، لا تسعى لإخضاع الآخرين ، بل حماية الحياض من تكرار مآسى الإذلال الغربى ، كما يبدو ظاهرا فى تجربة الصين المعاصرة ، التى تتمع بالمرونة العملية والثبات المبدئى فى آن ، وبالحرص الدائم على دعم قوتها كاملة الأوصاف ، مع تجاوز تجربتى اليابان وكوريا الجنوبية ، الأسيرتان لا تزالان لترتيبات حمائية أمريكية ، فرضت بقوة الغزو والاحتلال ، ومن دون أن تنجح فى تغيير الطبائع الثقافية ، التى تتشارك مع التقاليد الصينية فى العمق ، وبهدى من أديان ومذاهب حكمة وضعية غالبا ، ليست لها صفة الإطلاق السماوى ، كالبوذية والكونفوشيوسية والتاوية والشنتوية ، وكلها أشبه بوصفات روحية وطنية ، مع حضور ظاهر للإسلام ، ولبعض المسيحية ، فى بعض نواحى الصين ، وفى قوس شرق آسيا الناهض عموما ، الذى يضم أندونيسيا أكبر دولة إسلامية ، ومعها غالب ماليزيا وقطاع من السنغافوريين.
والمعنى ببساطة ، أن الشرق الآخذ فى التقدم المطرد ، لم يعد أسيرا لانطباعات “كبلينج” الزائفة ، بل هو الذى يقدم رسالته اليوم ، ومن دون عنصرية ولا تجبر ولا غرور ، فقد دار التاريخ دورته الكاملة ، وأثبت تفوق الشرق إنسانيا على الغرب الآخذ بالضعف ، مع التخبط والانكشاف ، بل وسحق كل معنى إنسانى فى حياة الغربيين ذواتهم ، وتدمير الروابط الاجتماعية الطبيعية ، وفرار المرء من أمه وأبيه ، وما مشاهد جائحة كورونا إلا مجرد مثال ، ميزته الكبرى ، أنه معروض بإلحاح على أبصار الدنيا كلها ، وبما يوحى للكافة ، أن الغرب لم يعد موردا لإلهام ، بعد أن زايلته فوائض القوة ، التى كان يحتمى وراءها ، وصار على الغرب اليوم ، أن ينزل إلى مقعد التلميذ ، وأن يقرأ هذه المرة من كتاب الشرق الجديد.