بقلم أ.د/ منى طه عامر استاذ القانون المدني والتحكيم التجاري الدولي
والمحامية بالنقض
مقدمة عن تعريف التحكيم وتاريخه
يسعدنى ان التقى بكم فى سلسلة موضوعات مختلفة عن التحكيم التجارى ” والذى قد يكون محلياً او دولياً” وهو موضوع يهم كل رجال المال و الاعمال والمستثمرين والاقتصاديين والمهندسين والقانونين وكل من يزاول عملاً تجارياً ومن لديه الاهتمام بأن يلتحق بصفوف المحكمين أو يمن يلجأ الى التحكيم حالة نشوء نزاع يتعلق به ، لذلك سوف اتناول مع حضراتكم كل ما يتعلق بالتحكيم بدء من مفهومه وماهيته وتعريفه ومروراً بكل مراحل أجراءاته وانتهاءً بالتنفيذ ، كما اتناول ايضاَ كل ما يتعلق بمعوقات العملية التحكيمية والحالات التى قد تؤدى الى بطلان حكم التحكيم وستجدون فى هذه السلسة اجابات لجميع التساؤلات التى تدور فى اذهانكم عن التحكيم . وادعو الله أن يتقبل مني هذا العمل خالصاً لوجه الله.
نبدء هذه السلسلة بمقدمة تعريفية وتاريخية عن التحكيم حتى يكون لدى القارئ فكرة عامة عن التحكيم وأهميته ولماذا يلجأ اليه المستثمرون فى حل خلافاتهم كبديل عن قضاء الدولة حيث تزايدت أهمية اللجوء إلى التحكيم كبديل للقضاء العادي منذ منتصف القرن العشرين وحتى نهايته بصورة ملحوظة ويرجع ذلك في أول الأمر ألى الوفاء بحاجة التجارة الدولية نتيجة تشابك معاملات هذه التجارة وتضخمها بصورة كبيرة وما تثيره من منازعات ذات طبيعة خاصة تحتاج في حلها الى وسائل غير
تقليدية ، فضلاً عن دعم مسيرة القضاء وتخفيفاً للعبء الثقيل الملقى على كاهله ، فكان من الضروري أن يقوم التحكيم بدوره في إكمال دور القضاء بحل المنازعات ذات الطبيعة الخاصة ومن هنا إكتسب التحكيم صفته كوسيلة مستقلة لحل المنازعات بغير طريق القضاء ولم يقف عند منازعات التجارة بل إمتد ليشمل أغلب المنازعات حتى وصل الى المنازعات الإدارية ..
أما من حيث النشأة التاريخية للتحكيم فقد عرفت البشرية التحكيم منذ القدم حيث كان الانسان يقتضى حقه بنفسه فكان خصماً وحكماً فى نفس الوقت ، وكان الدافع عن الحق يرتكز على قوة الانسان وعشيرته ، وكانت حدود الحق تتحدد وفقاً لحدود هذه القوة وقد ادى ذلك الى الفوضى والاضطراب فى المجمتعات فى تلك الحقبة الزمنية 0
ثم تطورت المجتمعات البشرية وشعر الانسان بأن القوة الذاتية لا تعتبر هى الوسيلة الافضل لفض المنازعات ، لذا فقد التجأ الخصوم الى شخص ثالث يحتكمون اليه ويطلبون تدخله للفصل فى النزاع القائم بينهما ،وهكذا نشأت فكرة التحكيم الاختيارى التى تطورت فيما بعد الى التحكيم الاجبارى الذى تفرضه بعض الدول أحياناً ، وذلك باجبار الافراد على الالتجاء الى التحكيم للفصل فى بعض المنازعات التى يحددها القانون والتى ترى الدولة من الافضل حسمها عن طريق التحكيم 0
ومن ثم فليس أمام الافراد فى حالة حدوث إعتداء على حقه إلا أن يلجأ لمحاكم الدولة لرد الاعتداء بنفسه ، وليس مباحاً له ايضاً أن يسلك طريق التحكيم بصفة دائمة الا فى حالات محددة 0
كما يعد التحكيم من أقدم الوسائل السلمية التي عرفتها البشرية لتسوية المنازعات ودياً وفي القرون الوسطى كانت الدول الأوربية المسيحية تحتكم إلى البابا في منازعاتها ، كما يعد نظام التحكيم الوسيلة السائدة لفض المنازعات في مجتمعات العرب القبلية قبل الإسلام ، وقد تكفلت الأعراف والتقاليد القبلية ببيان أحكامه وكافة القواعد الخاصة به.
وقد أقرت الشريعة الإسلامية الغراء التحكيم كوسيلة لفض المنازعات ويذهب غالبية الفقه الى أن التحكيم نشأ تاريخياً قبل ظهور القضاء إذ يعد الصورة البدائية للعدالة ، وكان التحكيم يعد الشكل البدائي لقضاء الدولة قبل ظهور مفهوم الدولة الحديثة بمؤسساتها وسلطاتها المتنوعة بما فيها السلطة القضائية التي يقع على عاتقها إسباغ الحماية القضائية للأفراد.
ورغم نهوض الدولة بعبء قيام العدالة إلا أن التحكيم لم يتوارى بل ظل قائماً بجانب قضاء الدولة كعدالة ثانوية أو ثانية وكان يغلب عليه الطابع التوفيقي بين المتنازعين للمصالحة بين الأطراف أكثر من كونه وسيلة لحسم النزاع وكانت شخصية المحكم تلعب دوراً محورياً في التوفيق بين المتنازعين ولذا كان يراعى في إختياره توافر شروط معينة أهمها أن
يكون محل ثقة من الأطراف المتنازعة ، وإختيار المحكم في الغالب يكون من الوجهاء الذين تربطهم بالأطراف علاقة مودة وأحترام أو من الحكماء الذين لديهم المقدرة على تسوية المنازعات.
وبقيام الدولة الحديثة أصبح القضاء هو صاحب الولاية العامة في القيام بالوظيفة القضائية إلا أن الدولة أجازت للأفراد الخروج عن الأصل العام وذلك بعرض منازعاتهم التي نشأت أو تنشأ بينهم على أفراد محكمين يمنحونهم الثقة ويطمئنون لقضائهم.
وقد حرصت الدولة على تقنين نظام التحكيم بوضع القواعد التي تنظمه وتكفل احترام أحكام المحكمين0
كما ويعد التحكيم نوع من العدالة الخاصة ينظمه القانون ويسمح بمقتضاه إخراج بعض المنازعات عن ولاية القضاء العام في حالات معينه لكي تحل تلك المنازعات بواسطة أفراد عاديين (المحكم أو المحكمين) يتم إختيارهم كقاعدة من قبل الأطراف المحتكمة .
وفي الآونة الأخيرة إزداد الالتجاء إلى التحكيم كوسيلة لحل المنازعات بدلاً من اللجوء إلى قضاء الدولة لما يتسم به الأخير من بطئ في إجراءات التقاضي نتيجة لكثرة عدد القضايا المعروضة والمثقل بها كاهل القضاة فضلاً عن عدم فاعلية الأحكام وقصورها عن الاستجابة لمتطلبات التجارة الداخلية والدولية ويتميز التحكيم بمزايا عديدة أهمها السرعة والمرونة والسرية والثقة .
وبعد هذا العرض الموجز يمكن لنا تعريف التحكيم بأنه عملية قضائية للفصل بين متخاصمين بواسطة جهة ممثلة بأشخاص سيكون حكمهم في خلاف ما بين أطراف الخلاف هو النهائي لحل قضية معينة .
ويختار المتنازعون المحكمين الذين يريدونهم ومن الممكن أن تكون عملية التحكيم بين مجموعتين أو حتى بلدين ، وغالباً ما يشار الى التحكيم بالطرق البديلة لفض المنازعات وهى وسائل وعمليات مختلفة تستخدم لحل المشكلات والمنازعات خارج نطاق المحاكم والهيئات القضائية الرسمية .
ويقصَد بالتحكيم إتفاق الأطراف على اختيار شخص (مُحَكِّم) أو أكثر يفصل فيما يثور مستقبلاً أو يثور فعلاً بينهم من منازعات , بحكم ملزم دون المحكمة المختصة.
وقد يتم الاتفاق على الالتجاء إلى التحكيم بعد أن يثور النزاع فعلاً, ويسمى هذا الاتفاق في هذه الحالة بوثيقة التحكيم أو مشارطة التحكيم .
وقد عرفت المحكمة الدستورية العليا بمصر التحكيم بكونه ” عرض نزاع معين على محكم معين من الاغيار باختيارهما أو بتفويض منهما أو على ضوء شروط يحددانها ، ليفصل هذا المحكم فى ذلك النزاع بقرار نائياً من شبهة الممالاة ، مجرداً من التحامل وقاطعاً لدابر الخصومة فى جوانبها التى أجالها الطرفان اليه ، بعد أن يدلى كل منهما بوجهة نظره تفصيلاً من خلال ضمانات التقاضى الرئيسى.
كما نصت المادة الرابعة فقرة (1) من قانون التحكيم المصرى على :
“ينصرف لفظ التحكيم فى حكم هذا القانون الى التحكيم الذى يتفق عليه طرفا النزاع بارادتهما الحرة سواء كانت الجهة التى تتولى اجراءات التحكيم بمقتضى إتفاق الطرفين منظمة او مركز دائم للتحكيم أو لم يكن كذلك “0لتؤكد هذه المادة على أن قرار اللجؤ الى التحكيم للفصل فى النزاع الذى قد ينشأ بينهما مستقبلاً هو اختيار حر يمنح للطرفين وهما من يقررا بإرادتهما المنفردة الحرة التحكيم وبذلك يقرر طرفى العقد إنصراف ارادتهما الى عدم اللجؤ الى القضاء الدولة والاستعاضة عنه باللجؤ الى التحكيم وذلك بالنص صراحة فى العقد وهما أيضاً يحددا اجراءات التحكيم سواء كان تحكيم حر أو مركز تحكيم .
كان ذلك عرض مبسط مختصر عن تعريف التحكيم ونشأته التاريخيه