فلسطين أولا

بقلم عبد الحليم قنديل

ردع عار وخيانة التطبيع يبدأ من فلسطين أولا ، قبل أى مكان آخر ، فلا مقاطعة تصمد بغير استناد إلى جدار المقاومة الصلب ، وعبء المقاومة فى لحظة اختلاط الأوراق الراهن ، لا ينهض به سوى الشعب الفلسطينى ، وهو صاحب الحق الأكثر أصالة فى القضية كلها ، وهو قلب دائرة وعملية إحياء الاهتمام والتركيز على القضية الفلسطينية ، وقد غابت أو كادت تغيب عن أولويات شعور شعوب الأمة العربية ، وأمم العالم الإسلامى ، المشغولة بألف مأساة ومأساة ، تخصها وتمزقها وتفرقها ، وتجرف مكانة الحق الفلسطينى ، وتيسر للحكام سبيل الخيانة والتطبيع مع كيان الاحتلال ، وعلى حساب التطبيع مع الفلسطينيين وحقوقهم غير القابلة للتصرف .

ولا بأس بعقد اجتماع جديد لأمناء عموم الفصائل الفلسطينية ، وقد عقدت قبله اجتماعات مماثلة لعشرات المرات فى السنوات الأخيرة ، ومن دون أن تنتهى إلى شئ عملى ملموس وملهم ، يستعيد للحركة الوطنية الفلسطينية قواما متماسكا ، يرد اعتبار الحق الفلسطينى كقضية تحرير وطنى ، لا كقضية عوز إنسانى منفك الصلة بالطموح الوطنى ، وهذه كانت خطيئة “أوسلو” الكبرى ، التى أوحت للفلسطينيين بنهاية رحلة الكفاح المسلح ، والانتقال إلى عهد ما يسمى بالسلطة الوطنية ، التى تحملت عن الاحتلال تكاليف ومعونات إعاشة الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية ، وقدمت لسلطة الكيان هدية دوام الاحتلال بالمجان ، ثم تدهورت الأوضاع أكثر مع خروج حركة “حماس” عمليا عن خط العداء لصيغة أوسلو ، ومشاركتها فى الانتخابات تحت سقف “أوسلو” ، ثم الصدام الدموى مع سلطة “فتح” فى غزة ، ونشوء سلطتين بدلا من سلطة واحدة ، وتحول الانقسام الرسمى الفلسطينى إلى فالق أرضى وطنى ، لم تفلح مئات الاجتماعات فى رأب صدوعه ، برغم صدور بيانات ونشر اتفاقات ، لم تنفذ أبدا ، وهو ما نأمل أن يكون الاجتماع الفلسطينى الجديد خاتمة لمتاهاته ومهاناته ، لا أن يكون مجرد تكرار لإدانات جهيرة مستحقة تصدر ضد حكام التطبيع العرب .

وبالطبع ، فليست المشكلة فى الشعب الفلسطينى ، ولا أحد بوسعه المزايدة على كفاحه المتصل لنحو مئة سنة مضت ، وثباته الباسل على أرضه المقدسة ، ومآثر أجياله المقاومة ، لكن صورة الشعب الفلسطينى المضيئة ، يكاد يطمسها الخلل الظاهر فى وضع الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم ، وصراعات ومساومات الفصائل ، وارتباطات كل منها بدوائر إقليمية متخالفة ، وتقديمها لعناوين ممزقة متصادمة على حساب القضية الفلسطينية ، فما من قيادة جامعة ، وما من خطة واحدة متفق عليها ، لا فى تعريف حدود الحق الفلسطينى ، ولا فى سبل كسبه ، فثمة من يتمسك بسبيل المقاومة المسلحة ، وثمة من طلق زمن المقاومة ثلاثا ، ولا يفتأ يحدثك عن السلام والتسويات ، برغم عظات تجربة أوسلو بمقدماتها ونتائجها المستمرة لنحو ثلاثين سنة إلى اليوم ، توالت فيها المفاوضات بعد المفاوضات ، ومن دون أن تحقق شيئا يذكر ، اللهم إلا إتاحة فرصة الهدوء الذهبى لكيان الاحتلال ، وتوحش الاستيطان الاستعمارى الإسرائيلى فى القدس والضفة الغربية ، وتآكل الأرض من تحت أقدام الفلسطينيين ، وتباعد هدف وإمكانية قيام الدويلة الفلسطينية على حدود 1967 ، التى صوروها كحلم قابل للتحقق عام 1999 ، أى بعد خمس سنوات انتقالية من بدء تطبيق صيغة أوسلو ، ثم مضت عشرون سنة بعدها وتزيد ، قبل أن يعلن أمراء “أوسلو” فساد طبختها ، واستعدادهم للخروج من مستنقعاتها ، وإلغاء الاتفاقات كلها ، بما فيها خطيئة التنسيق الأمنى مع كيان الاحتلال ، والقطع الكامل لعلاقات التواصل مع العدو ، ومن دون أن يقولوا للشعب الفلسطينى ماذا بعد ؟ ، ولا أن يعلنوا حل السلطة عنوان “أوسلو” ، ولا أن يفتحوا طريقا جديدا بديلا لانسداد طرق الندامة .

صحيح ، أن الضمانة الكبرى ظلت صامدة ، وهى كفاحية الشعب الفلسطينى ، وتسابق أبنائه لتقديم التضحيات الجليلة من أجل الحق الوطنى ، كلما أتيحت الفرصة لمقاومة شعبية جماهيرية سلمية ، أو برصاص الكفاح المسلح ، وعلى طريقة الانتفاضة الكبرى الثانية ، التى بدأت أواخر عام 2000 ، وأرغمت كيان الاحتلال على الجلاء عن غزة ، وتفكيك مستوطناته فيها من طرف واحد ، فكلما اشتعلت نار المقاومة ، استحال على الاحتلال أن يستقر ويدوم ، وكل احتلال ينتهى لو زادت تكاليف بقائه عن الفوائد ، وقد جرى ذلك فى الجنوب اللبنانى ، ثم جرى فى غزة ، وفى الزمن ذاته الذى روجوا فيه لمقولة السلام ـ إياه ـ كخيار وحيد ، ووقعت السلطة الفلسطينية نفسها فى هذا الفخ الاستراتيجى ، وأهدرت زمنا لا سبيل لاستعادته ، بل لاستيعاب درسه على نحو نهائى ، وتفكيك القيود المفروضة على حركة الشعب الفلسطينى ، وإزاحة تراب أوسلو وما بعدها عن جوهر الحق الفلسطينى ، ووقف التعويل البائس على ما يسمى حركة المجتمع الدولى والرباعية الدولية وغيرها ، وعلى نظام عربى منهار ، وجامعة دول عربية لا تملك شيئا من أمرها ، فلا أحد ينتصر لحقك ما لم تنتصرله أنت أولا ، والمطلوب ليس أقل من إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية ، وعلى أساس فتح الخرائط لا طيها ، وإعادة النجوم لمداراتها ، واعتبار فلسطين كلها وطنا محتلا ، ينبغى السعى لتحريره من النهر إلى البحر ، وترك خرافة “حل الدولتين” الذى دفن ، والتقدم إلى هدف وحل الدولة الديمقراطية الواحدة على كل أراضى فلسطين التاريخية ، ودمج حركة الشعب الفلسطينى كلها فى سياق نضالى موحد متنوع الموارد ، وإقامة منظمة تحرير فلسطينية جديدة موحدة ، تمثل الشعب الفلسطينى فى الداخل “الإسرائيلى” ، وفى الضفة وغزة والقدس المحتلة ، وفى أوطان الشتات جميعها ، وبقوة دفع هائلة ، تزيد على 13 مليونا من البشر الفلسطينيين ، أكثر من نصفهم الآن راسخون ثابتون فوق أرضهم المقدسة ، تطورت ملكاتهم وخبراتهم ، وخلقتهم المحنة خلقا جديدا ، وصار بوسعهم المشاركة فى عمل ومقاومة متعددة الصور ، لا تستثنى المقاومة المسلحة فى جغرافيا غزة والضفة والقدس ، ولا تستثنى المقاومة الديمقراطية فى الداخل “الإسرائيلى” وراء جدار الفصل العنصرى ، ولا تتوقف عند نشاط دبلوماسى باهت فى أروقة المنظمات الدولية ، بل ترفده بهبات شعبية سلمية فى كل مكان ، من حول المسجد الأقصى وكنيسة القيامة فى القدس ، وإلى أبعد عواصم الشتات الفلسطينى ، تطلب تحرير الشعب الفلسطينى من ربقة الاحتلال الاستيطانى والفصل العنصرى ، وتستحث أحرار العالم على مساندة الكفاح الفلسطينى ضد العنصرية الفاشية .

وقد يكون ما ذهبنا إليه بعيد المدى ، وهذا صحيح تماما ، فنحن بصدد صراع طويل العمر ، ولن يحسم فى سنوات قليلة ، وإن كان ممكنا حسمه على مراحل ، وعلى مدارج عشرات السنوات المقبلة ، ربما إلى منتصف القرن الجارى ، وقتها يكون الشعب الفلسطينى فى وضع الأغلبية السكانية الساحقة على أرضه المقدسة ، ولكن ليس كغبار بشرى تائه ، بل ككتلة حسم واضحة الأهداف ، وهذه هى القيمة الكبرى لمخطط الدولة الواحدة ، التى ينكمش فيها تمدد المشروع الاستيطانى الإحلالى ، وتتغير خرائط التوازنات الدولية ، ويتراجع فيها وزن الدور الأمريكى الكونى الضامن لبقاء وسيادة الكيان الاحتلالى العنصرى ، فساعة نهاية عمر الكيان هى ذاتها ساعة تحلل دور أمريكا الكونى ، والارتباط شرطى بين حدود قوة الهيمنة الأمريكية ومقدرة إسرائيل على البقاء ككيان عنصرى ، وقد كانت تلك واحدة من الأفكار اللامعة لمفكر مصرالبارز القومى الشهيد جمال حمدان ، طرحها مبكرا فى نهاية ستينيات القرن العشرين ، فما بين أمريكا وإسرائيل حالة اندماج استراتيجى لا مجرد تحالف ، وهو ما قد يصح أن تدركه الحركة الوطنية الفلسطينية من اليوم قبل الغد ، وأن تهيئ لنفسها أوضاعا جديدة ، تخرج بها من خانات رد الفعل العابر ، إلى براح الفعل المؤثر بالتراكم ، وقد تكون البداية الواجبة فى إنهاء عار الانقسام الداخلى المنهك ، وبقرار واحد لا يحتاج إلى بيانات تمهيد ، فقضية الشعب الفلسطينى أكبر من “فتح” و”حماس” ، وأبعد من خيالات حسيرة البصر والبصيرة ، وما من بديل عن ترك الخنادق المختنقة ، وبعث شعور قومى عربى جديد ، من حول قضية فلسطينية متجددة ، فقد نمت وتطورت موجة الصعود القومى العربى الأول فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، من حول القضية الفلسطينية بعد نكبة 1948 ، وثورة جمال عبدالناصر فى القاهرة بعد مضى سنوات قليلة على حصاره فى “الفالوجا” الفلسطينية ، وكانت للمرحلة القومية أماراتها ومزاياها ونواقصها ، ثم طويت مع الانقلاب عليها فى مصر، ثم مع طى الشعور بحرارة الالتفاف حول الفعل الفلسطينى ، ثم كان الموات الذى نعيشه عربيا وفلسطينيا ، وفى انتظار قيامة جديدة ، تبدأ من فلسطين قبل غيرها ، وتبدأ من المقاومة التى تستنفر المقاطعة ، وتهزم بارونات التسويات وصفقات التطبيع .

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى