جذور الانحراف: سيكولوجيا الشباب (2)

جذور الانحراف: سيكولوجيا الشباب (2)

  • نستكمل ما بدأناه في المقال السابق عن خصائص وسِمات شخصيَّة الشاب المراهق، ونركِّز هنا على الجوانب المعرفيَّة والعقلية والخلقية، والتي قد تكون النواة الأولى والجذور الخفية لبعض الظواهر والمشكلات الشبابيَّة.
  • تمتاز مرحلة الشباب والمراهقة باليقظة الدينيَّة؛ بحيث توضع فيها المعتقدات الدينية التي قد كوَّنها الفرد في طفولته موضعَ الفحص والمناقشة والنقد، وتتعرَّض للتعديل؛ حتى تتفق مع حاجاته الجديدة الأكثر نضجًا، ويزيد من اهتمام المراهق بالمسائل الدينية أنَّه مطالَب بممارسة العبادات بشكل أكثر جدية مما كان عليه الحال في الطفولة، بالإضافة إلى أنَّ مناقشاته مع أصدقائه يغلب على موضوعاتها المسائل الدينية، كما أن بعض الحوادث التي تقع له؛ كموت صديق أو قريب، أو الصعوبات التي يواجهها، تجعله يزداد تركيزًا على الدِّين.

والفحص الناقِد لمعتقدات الطفولة قد يقود المراهق إلى الشكِّ، وبالطبع توجد فروق فردية وجماعية في خبرة الشك الديني لدى المراهقين؛ فهو أشد لدى الذُّكور منه لدى الإناث، كما أنه أقل حدوثًا لدى المراهقين الذين ينشؤون في أسَرٍ تهتم بالدين دون مبالغة، وقد يزداد هذا الشعور أو يقل مع نموِّ المراهق، ويتوقف ذلك على طبيعة الخبرات التعليمية التي يتعرَّض لها في المدرسة؛ فإذا كانت التربية الدينية تقدَّم للمراهق بشكل صوري، وإذا كانت مقررات العلوم الحديثة التي يدرسها في المدرسة تزيد لديه الفجوة بين العلم والدين – فإنَّ ذلك قد يزيد حدَّة الشعور بالشك لديه.

  • يستطيع الشاب في هذه المرحلة التعامل مع معظم المفاهيم والمصطلحات؛ كالمفاهيم الفلسفية؛ مثل الحرية والحقِّ والعقيدة وغيرها، بل قد تكون لديه مشاعر واتجاهات نحو المفاهيم والأفكار، وليس مجرد الأشياء والأشخاص.
  • من سمات المرحلة التمييزُ بين الواقع والمحتمل؛ فالمراهق في هذا الطَّوْرِ لم يَعد قانعًا بالتعامل مع الخبرة المباشرة والواقع المشاهد، ولكنه يفكِّر بشكل مستمر في البدائل المختلفة، ويستثمر المراهق هذه القدرة الجديدة في التعامل مع مختلف جوانب الحياة؛ (السياسة، الدين، التربية، المستقبل المهني، الألعاب الرياضية، العلاقات الاجتماعية، وغيرها)؛ فهو يتعامل مع الأفكار والمُثُل العليا والأيديولوجيات، وربما لهذا السبب يوصف المراهق بأنه “غير واقعي” أو “مثالي” أو “حالم” أو “مبالِغ”.
  • كذلك يزداد اهتمام المراهق بالمقارنة بين الحال الذي عليه الواقع، وما يجب أن يكون عليه، وهذه المقارنات تؤدِّي بالمراهقين إلى الانشغال بالقضايا السياسية والاجتماعية والدينية؛ وقد يقود ذلك إلى الاندماج في بعض الجماعات النشطة في هذه المسائل، وربما يؤدِّي هذا النشاط إلى صِراع مع الوالدين والمعلمين والقيادة والسلطة، وربَّما يؤدي ببعض المراهقين إلى الانتساب إلى جماعات العنف والتطرف، ولحمايتهم يجب على الراشدين تقديرُ وجهة نظر المراهق، ومعاونته على إدراك الفجوة بين الواقع والمحتمل “ومنه المستحيل”، وتعميم برامج تهيِّئ له أهدافًا بديلة من خلال النشاط الاجتماعي المشروع؛ (كالحوار الوطني، المشاركة في التصويت والانتخاب)، وهذه هي مسؤولية المدارس، وبرامج رعاية الشباب على وجه الخصوص.
  • يظهر لدى الشاب اتِّساع في نطاق التفكير؛ فإلى جانب التغير في طبيعة التفكير في هذا الطور، تظهر زيادة في المدى أو الاتِّساع، فيصبح المراهق أكثرَ قدرة على التعامل مع المثيرات الأكثر بعدًا في الزمان والمكان، كما أن العمليات المعرفية تصبح أكثر ارتباطًا بمعظم أنماط السلوك؛ وهكذا لا يصبح المراهق قادرًا على التفكير في المسائل العقلية وحدها، وإنما يستطيع أن يفكِّر أيضًا في المشكلات الانفعالية، ومشكلات العلاقات الإنسانية، والمشكلات الأخلاقية، والمشكلات العامَّة، ويتميَّز المراهق بحماسه في التأمُّل وهو يمارس العمليات الصوريَّة في فهم عالمه وتصوُّر واقعه.
  • في الجانب الأخلاقي نجد المراهق لا يكون مستعدًّا لتقبُّل المفاهيم الخلقية دون مناقشة كما كان الحال عليه أثناء الطفولة، إنه يحاول بناء نظامه الأخلاقي معتمدًا على المبادئ الخلقية التي تكوَّنَت لديه أثناء الطفولة، والتي يجب أن تتعدَّل وتتغير لتلائم المستوى الأكثر نضجًا من النمو في هذه المرحلة، ويقوده ذلك إلى اكتشاف أوجه التناقض في بعض المبادئ الخلقيَّة، وخاصَّة التناقض بين القول والعمل في سلوك الوالدين والمعلِّمين والسلطة، وهذا الاكتشاف خاصة يؤدِّي بالمراهق إلى كثير من الخلط والاضطراب، كما قد يكتشف المراهق ما يمكن أن يسمَّى “المعيار المزدوج” Double Standard؛ فالكذب يمكن أن يكون أبيض، وسرقة الممتلكات الشخصية أسوأ من سرقة الملكية العامَّة، وبعض أنماط السلوك في العلاقة بين الجنسين تعدُّ خطأ إذا صدرَت عن البنات، بينما هي ليست كذلك بالنسبة للبنين، والأخطر من هذا شيوع اتِّجاه تسامحي نحو الغشِّ في الامتحانات، ويبرِّر المراهقون ذلك بأن الكثيرين يلجؤون إلى هذه الوسيلة للنَّجاح في الامتحان من ناحية، وبأن هناك ضغوطًا على الطلَّاب للحصول على درجات عالية لتحقيق أهدافهم التعليمية والمهنية، وشيوع هذه المعايير المزدوجة بين المراهقين مؤشِّر على الانهيار القيمي العام، والمراهقة في هذه الحالة ليست إلَّا مرآة تنعكس عليها هذه الصورةُ المدمِّرة لقيم وأخلاقيات المجتمع.
  • ومضة: “إقامة علاقة جيدة مع الأبناء في ظلِّ التغيرات والتحولات مهمَّةٌ صعبة للغاية يعاني منها الجميع، بمن فيهم التربويون والنفسيون والاجتماعيون”؛ د. عبدالكريم بكار.
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى