د. هند بنت مصطفى شريفي
التقليد والانحراف الفكري
وهذه الحجة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المعرضين عن الحق، في مختلف الأمم قديماً وحديثاً، وهي شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد من العادات والدين، وأنهم ورثوا هذه العقيدة التي يدينون بها عنهم، وقد بين الله تعالى هذه الحجة في قوله: ﴿ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [1]، وهي شبهة تتعلق بها نفوس المشركين، وهي حجة داحضة يلجأ إليها كل من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه[2].
وأما أهل مكة فكان حالهم كما قال تعالى عنهم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [3].وسبب صدودهم هو: تقديسهم لتراث أسلافهم، وتخيلهم أن في إسلامهم ومتابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، طعنا وإزراء منهم على آبائهم وأجدادهم وذما لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله من الإسلام، استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفهوا أحلام أولئك، وضللوا عقولهم، ورموهم بالكفر والشرك[4].
يقول الإمام ابن الجوزي[5] رحمه الله: (ومن أقبح ما لبسه الشيطان عليهم-أي المشركون- تقليد آبائهم من غير نظر في دليل)[6]، ومن ذلك الشرك، والبدع الجاهلية التي نبَّه عليها القرآن[7]، فالواجب عندهم تقليد ما شرعه لهم أسلافهم، وهو محترم ومعظم عندهم، لا يجوز رد شيء منه، أو المساس به، بل أن جوابهم كان لنبيهم لما أراد هدايتهم إلى طريق الهدى هو قولهم ﴿ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [8].
وقد غفلوا عن المنهج القرآني في حضه على النظر والاعتبار، كقوله تعالى ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [9]،وقوله ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [10].
كما غفلوا عن المسئولية الشخصية التي يتحملها كل فرد عن نفسه، كما قال تعالى ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [11].وهذا التفهم والتبين، لا يكون إلا بالنظر في الأدلة واستيفاء الحجة دون التقليد، لأن التقليد لا يثمر علماً ولا يفضي إلى معرفة، وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء، واتباع السادات والكبراء ، تاركا بذلك ما ألزمه من النظر والاستدلال، وفرض عليه من الاعتبار والاجتهاد، فقال تعالى﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [12][13].
وخلاصة الأمر أن التقليد أنواع:
- النوع الأول: التقليد المحرم بالنص والإجماع: وهو أن يعارض قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما يخالف ذلك، كائنا من كان المخالف لذلك [14].
- التقليد المذموم القبيح في الشرع: وهو (الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه فيالشريعة[15] فيقول المقلِّد بقوله وهو لا يعرف وجه القول، ولا معناه، فهو تقليد بلا تعقل أو إدراك[16].
وفي مثل هذا النوع قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)[17]. - التقليد الممدوح: وهو أن يتبع المقلدُ القائلَ على ما بان له-أي المقلِّد- من صحة قوله -أي المقلَّد- وصحة مذهبه، وهذا يسمى الإتباع لا التقليد[18]. وبعبارة أخرى: كل من اتبعت قولَه، من غير أن يجب عليك اتباع قوله، لدليل يوجب ذلك، فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والإتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع[19]. ورغم رسوخ عصبية التقاليد والعادات في المجتمع العربي-في الماضي والحاضر- فقد استهدفت الدعوة الإسلامية هدم كثير من التقاليد الأصلية أو الفرعية، أو تعديلها، كالشرك على أنواعه، وكالعصبية الاجتماعية الضيقة، وما كانت تتشدد فيه من حزبيات عائلية وقبلية.. إلى آخر ما شرع لهم آباؤهم، فذلك كله نقاط اصطدام وتشاد وبواعث مناوأة ومعارضة للدعوة النبوية، منذ أول عهدها، وظلت كذلك إلى آخر العهد[20].
فقد رفعت قريش راية التقليد والأعراف والعادات المرتبطة بالأجداد والآباء، لا المرتبطة بمضامين الحق والعدل والقسط، وهي الراية التي ترفع في التصدي لدعوة الله، حتى هذا اليوم[21].
وهي ذات الحجة التي أجاب بها أبو سفيان رضي الله عنه هرقل، ضمن استجوابه له بسؤاله: ماذا يأمركم؟ فقال: (يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم)[22].
وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم على قومه أن يأسروا أنفسهم للتقاليد الموروثة، دون تفكر منهم في مدى صلاحها أو فسادها، ودعاهم إلى تحرير عقولهم من أسر الإتباع الأعمى[23].
ويكفي المرء أن يطالع خطبه صلى الله عليه سلم بعد الفتح ليرى أثر الإسلام في محوشعائر الجاهلية ومآثرها ومفاخرها، ووضع الأسس الإسلامية بدلا منها، معتقا بذلك أعناق الناس من أغلال هذه التقاليد المتوارثة.
هذا الوضع كثيراً ما يواجه الدعاة في العصر الحديث، حتى في المجتمعات الإسلامية، عندما يبتعد الناس عن هدى الله وسنة نبيه، وتصبح العادات والتقاليد هي المسِّيرة للناس في هذا المجتمع، وهي الشرع الذي يتمسك به الناس، وإذا حاول الداعية ردهم إلى جادة الحق وسبيل الهدى، واجهوه باستنكار شديد، مرددين مقولة الجاهلين من قبلهم ﴿ بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [24] (وهذا التقليد الذميم للباطل القديم ،الذي كان عليه الآباء والأجداد من أعظم أسباب التمرد على الحق)[25].
[1] سورة الزخرف آية 23.
[2] بتصرف، بيان حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل، ودحض الشبهات التي أثيرت حوله: د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ص 26، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ط: بدون 1408هـ 1987م. وانظر مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية ص 7 و ص 9.
[3] سورة لقمان جزء من آية 21.
[4] بتصرف، مفتاح دار السعادة 2 /97، وانظر العقيدة الإسلامية وأسسها ص 685.
[5] هو الحافظ المفسر الواعظ: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد التيمي القرشي البغدادي، يرجع بنسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد ببغداد سنة 509هـ وتوفي والده وعمره 3 سنوات فربته عمته، كان علامة عصره في التاريخ والحديث، أكثر من التصنيف وله نحو 300 مصنف، توفي سنة 597هـ وكان يوم وفاته يوما مشهودا رحمه الله. بتصرف، سير أعلام النبلاء 21 /365، والأعلام 3 /316.
[6] تلبيس إبليس ص 63.
[7] كما في قوله تعالى ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ﴾ [الأنعام: 136] الأنعام جزء من آية 136،وقوله ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ ﴾ [المائدة: 103] المائدة جزء من آية 103. انظر الاعتصام 2 /37.
[8] سورة المائدة جزء من آية 104.
[9] سورة ص آية 29.
[10] سورة العنكبوت آية 43.
[11] سورة الإسراء جزء من آية 15.
[12] سورة البقرة آية 170.
[13] الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض: الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ص 124، تحقيق وتقديم: الشيخ خليل المَيس، دار الكتب العلمية بيروت ط:1، 1403هـ 1983م. وقد قال تعالى ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ الفرقان الآيات 27-29.
[14] بتصرف، الفتاوى: ابن تيمية 19/ 262.
[15] جامع بيان العلم وفضله 2/ 117.
[16] بتصرف، الرد على من أخلد على الأرض ص 120.
[17] جامع بيان العلم وفضله 2 /114.
[18] بتصرف، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 120.
[19] جامع بيان العلم وفضله 2 /117.
[20] بتصرف، سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صور مقتبسة من القرآن الكريم 1 /179.
[21] بتصرف، في السياسة الشرعية: د. عبد الله النفيسي ص 128.
[22] سبق تخريجه ص 443.
[23] بتصرف، فقه السيرة: د. محمد البوطي ص 102.
[24] سورة الشعراء جزء من آية 74.
[25] أصول الدعوة ص 388.