د. هند بنت مصطفى شريفي
الرواسب الفكرية وأثرها في الانحراف الفكري
وهذه الرؤية العقلية المنحرفة تعتمد بشكل كبير على الخلفية الفكرية النامية في ذهن المدعو، والتي تسبب الانحراف الفكري عن منهج التفكير السليم(1).
وقد تسمى: الرواسب الفكريةويعرفها د. زيد الزيد بأنها: ما ورد على الإنسان، وأثَّر في تكوينه العقلي، وطريقة تفكيره، وتعامله مع الحياة، وتفسيره لها، وتتجمع هذه الواردات في ذاكرته، من منزله وبيئته ومجتمعه وثقافته، لتكوِّن رأيا ذا تأثير في التعامل والقبول والرد، دون أن يشعر بذلك في غالب الأحيان[2]، وقد أورثت هذه الخلفية قريشا شكا بالحق وعدم تصديق له.
يقول القاضي الباقلاني [3] رحمه الله: صوارف كفار العرب عن الإسلام كثيرة، فرغم فصاحتهم إلا أن تأثرهم بإعجاز القرآن وفصاحته لم تكن على طريقة واحدة، لأن صوارفهم كانت كثيرة، مثل أنهم كانوا يشكون، فمنهم من يشك في إثبات الخالق، ومنهم من يشك في التوحيد، ومنهم من يشك في النبوة، ألا ترى إلى قول أبي سفيان لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلم، وقال له: ((أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟)) قال: أما هذه ففي النفس منها شيء[4].
ولا يكاد يخلو مجتمع من العقائد الموجِّهه نحو الكون والحياة وعلاقات الناس بخالقهم وأبناء جنسهم، وهذه في جملتها تشكل الأساس النظري والمعنوي للواقع المعاش، وتشكل أسسا فكرية ثابتة في عقولهم، وبالتالي فحين تطرح قضية من القضايا، فإن الناس لا يتعاملون معها من فراغ، وإنما من خلال الثوابت لديهم[5].
والبشر بطبعهم ميالون لمقاومة التغيير والتحويل عما ألفوه، خاصة في الأمور المتعلقة بالعقيدة، لأنها مفاهيم متأصلة منغرسة في عقل وقلب الإنسان، تترجمها الجوارح إلى سلوك عملي.
والاقتناع بالعقيدة الجديدة يستلزم النظر بموضوعية وتأمل وتجرد من الخلفية الفكرية السابقة. وكثير من الناس يظل متخبطا، لا يتضح له الحق، ولا ينكشف له وجهه، مهما عرضت عليه الأدلة والبراهين، لا لأن الأدلة غير كافية للإقناع بالحق، ولكن لأن سوابق الأفكار كان لها سلطان على عقولهم، وتأثير فيها،وتغشية على بعض قدرات الرؤية لديها.[6]
ويحدث من اجتماع ذلك صراع بين الحق والباطل، وتضارب بين الأفكار القديمة والحديثة، في داخل نفس المدعو، وينتج عن ذلك الصراع – إذا قوي أثر هذه الرواسب الفكرية – اندفاع وانجذاب إلى الاعتقاد الذي تغلب على فكره وظهر في نفسه، ونفور من الاعتقاد الآخر المعاكس، والإعراض عنه، بل ومعاداته أحياناً، إلا أنه لا يمحوه تماماً، إذ قد يظهر الانجذاب إليه والاعتقاد به، في وقت لاحق، متى زال تأثير هذه الخلفية الفكرية، وسنحت الفرصة لتأثير الفكر الجديد، وأبرز مثال على ما سبق، إسلام قريش بعد الفتح وهيمنة الإسلام، وإزالة رموز الشرك، فكانت أنفسهم كالأرض العطشى إلى الغيث ما لبثت أن تشربت هذا الخير دفعة واحدة.
- العقيدة الإسلامية وأسسها ص 683.
- الرواسب الفكرية ص 23. ويسميها الأستاذ عبدالرحمن الميداني (سوابق الأفكار) انظر بصائر للمسلم المعاصر ص 114.
- هو محمد بن الطيب بن محمد البصري ثم البغدادي، صاحب التصانيف، ولد في البصرة سنة 338هـ، وانتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، كان يضرب به المثل في قوة ذكائه وفهمه، وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وجهه عضد الدولة سفيرا عنه إلى ملك الروم، فجرت له مناظرات مع علماء النصرانية توفي رحمه الله سنة 403هـ. بتصرف، سير أعلام النبلاء 17/190، والأعلام 6/176.
- إعجاز القرآن: الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ص 54-55، قدم له وشرحه وعلق عليه: الشيخ محمد شريف سكر، دار إحياء العلوم والتراث ط:1، 1408هـ 1988م.
- بتصرف، مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ص 119.
- بتصرف، بصائر للمسلم المعاصر ص 114-115.