أبو الوفا مصطفي المراغي
طبيعة المرأة ونفسيتها في السنة المحمدية
أصل الرجل والمرأة واحد؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ [الحجرات: 13]، ولحكمة استبقاء النوع وإعمار الأرض وانتظام الوجود؛ خلَقهما الله متفاوتين في الجسم والعقل والوِجدان والغرائز، وقد زادهما امتدادُ التاريخ واستحداث الأعراف والتقاليد تفاوتًا، حتى كادا يكونان جنسين متقابلين، ومَن أنكر الفرق فيما ذكرنا، فهو مُكابِر للحس مُنكِر للواقع.
وقد كانت دراسة نفسيَّة المرأة والرجل قضية التاريخ منذ وُجِد البشر، وشغَلت تلك القضية بالَ الفلاسفة والأدباء ورجال التشريع والأخلاق، واستبدَّت المرأةُ بأكثر جهود هؤلاء العلماء، وأوفر إنتاج الأدباء وعلماء النَّفس كان في موضوع دراسةِ نفسية المرأة، وما يدور حولها من مشاكل الحبِّ واللَّوعة والهُيام، وبالرغم من كَثْرة ما كُتِب، فما زالت العقول تتصارع، والأقلام تتصاول حول تلك القضية؛ لتُضيف إليها جديدًا، أو تَبلُغ بها غاية، وغاية ما انتهى إليه الحُذَّاق منهم أن طبيعة المرأة وغرائزها وسلوكها لُغْز لم يُحَل، ومنتهاه مبدؤه، وهو كالحَلْقة المُفرَغة؛ لا يُدرى أين طرفاها.
إن الشرائع الصحيحة اعترفتْ بواقع الفروق بين الرجل والمرأة، وفي ضوء هذه الفروق خصَّت المرأة بجملةٍ من الأحكام والوصايا في العبادات والمعاملات والأقضية والميراث.. وغير ذلك؛ قصدًا للتيسير عليها، ورعاية لطبيعتها، وإن كانت بعض الشرائع اكتفت بالإشارة إلى ذلك، لكن الشريعة الإسلامية تناولتها تفصيلاً لا لَبْس فيه؛ حتى لا تتعارض الشريعة والطبيعة فيما يَحتمِل التأويل من النصوص، وقد ألَّف بعضُ العلماء كتبًا مُستقلة فيما اختصَّت به المرأة من الأحكام الإسلامية، ومن نماذج ذلك: ما جاء في القرآن خاصًّا بنصيبها في الميراث، وخاصًّا بالزواج والطلاق، والرَّضاع ووجوب الإنفاق، وحق التملك لمهرها وغيره.
وقد كان سيدنا محمد صلى الله وسلم أعرف الناس بطبائع النساء وأحوالهن، وكأن الله أراد بما سمح له من تَعدُّد الزوجات أن يَخبُرهن من خلال ممارسته لهن، ومعاملة بعضهن لبعضهن؛ حتى يعلم سرَّ التشريع الخاص بهن، وليكون قادرًا على بيانه وإبلاغه في إقناع.
ولقد ورد عنه صلى الله وسلمعر في ذلك ما يُثير الإعجابَ والاستغراب، ولو جُمِع ما ورَد عنه في ذلك، وفُسِّر تفسيرًا صحيحًا مُنزَّهًا عن الهوى والغرض، بعيدًا عن مؤثِّرات الحضارة الزائفة، لكان لنا منه كتاب كامل في عِلْم النفس النسائي، وحسبنا أن نَقتبِس مما ورد من إشارات إلى طبيعة المرأة وخصائصها، وسر ما يُستغرَب من سلوكها كأثر مما اختصَّت به المرأة.
لقد كان العرب من أشد الشعوب شفافية حِسٍّ ورفاهة نَفْس، وكانوا مشبوبي العواطف؛ لذلك فهم أشدها تَعلُّقًا بالمرأة ومُخالَطة لها، وكانت تقاليدهم تُبيح لهم الاستكثار منهن (زوجات وسراري)، كما كانوا أشدَّ الشعوب في التلاحم الأسري، فكوخ العربي في إقامته ورَحْله في سفره – ملاذه ومأواه، وسَكَنه الذي يجد فيه راحةَ النَّفس وبَرْد السكينة، واستطاع العربي في ضوء هذه الظروف أن يَدرُس طبيعةَ المرأة، ويتعمَّق دخائلها النفسية، وسجَّل الشعراء بعضَ هذه الحقائق عن طبائع المرأة، وهي تلتقي مع بعض الحقائق التي يتحدَّث عنها علماء النفس والاجتماع والأدباء والشعراء، ويجمعها الصدقُ ويشهد لها الواقع.
والحقائق التي سجَّلها العربُ في أشعارهم عن المرأة أنها منهومة بمظاهر التجمُّل، مشغوفة بالمدح والإطراء، والغواني يَغُرُّهنَّ الثناءُ، وأنها إذا أحبَّت أسرفتْ في الحب، وإذا أبغضت أسرفت في البُغْض، ويستهويها الفتوَّة والشباب، فإذا فرغ الشباب وتَغضَّن الإهاب، فما للرجل في وُدِّهن نصيب، وأنها مُتقلِّبة العواطف يَستخِفها الفرحُ، ويهيضها الحزنُ، ومهما أُتيح لها من أسباب القوة فهي مُفتقِرة إلى ظَهْر تَركَن إليه، وحمى تَحتمي به، وأنها تُحسِن التمثيلَ، وتحاول إلباس الباطلِ ثوبَ الحق، ولا تَفتُر عن الإلحاح في الوصول إلى ما تشتهي، وتنظر إلى الأمور في عَجَلٍ، وتَزِنها بحاضرها دون التدبُّر لعواقبها، ونارها التي لا تنطفئ، وذِروة غرائزها الغَيرة من أترابها، وويل للضَّرَّة من ضَرَّاتها.
والحقائق النفسيَّة للمرأة التي انطوى عليها الشعر العربي والأمثال العربية – كثيرة مبثوثة في شعر أكثر الشعراء القدامى.
ونقف هنا وقفةً قصيرة لنُسائل أدباءنا: كيف خلا الميدان الأدبي من الحديث عن المرأة العصرية؟ وما أثر ما خلعتْه عليها الحضارةُ من سِمات الرِّقة وملامح الرُّقي، وما كشفه العلم منها من مزايا وعيوب، على حين غصَّت المطابع والمكتبات بالإنتاج الأدبي الأجنبي في ذلك الموضوع؟
إنَّا لا نعلم السرَّ في خَواء الميدان الأدبي العربي من موضوع المرأة، وموضوع المرأة كان على امتداد الزمن هو مادة الأدباء والشعراء الذين يَستلهِمون من وحيه، وإنا لنذكُر بعد هذه الوقفة الاستطرادية أن أبرز مَن تصدَّى من شعراء العرب القُدامى للحديث عن طبائع المرأة وأَكثَر من الحديث فيه هو الشاعر العربي المعروف عمر بن أبي ربيعة؛ فقد قال عنها كثيرًا، إلا أن أكثر حديثه كان عن جانب المرأة العاطفي والجمالي، ولم يتعمَّق جانبَها النفسي والعقلي إلا قليلاً، ومن قوله:
ولما تَعارَضنا الحديثَ وأسفرتْ
وجوهٌ زهاها الحُسْن أن تتقنَّعَا
ومن قوله:
والغواني إذا رأينك كهلاً
كان فيهن عن هواك التواءُ
ومن قوله:
وما تجزي بقرض الوُد نُعْمٌ
ولا تَعِدُ النوالَ إلى قريبِ
ومن قول امرئ القيس وهو الطبيب بالنساء:
إذا قامتا تضوَّعَ المِسكُ منهما
نسيمَ الصَّبا جاءتْ برَيَّا القَرَنْفُلِ
ومن قوله:
وما ذرفَتْ عَيناكِ إلا لتَضرِبي
بسهمَيكِ في أَعشارِ قلْبٍ مُقتَّلِ
ومن قول بشار عن النساء:
عسْرُ النِّساء إلى مُياسَرةٍ
والصَّعبُ يُمكِن بعد ما جَمَحا
ومن قول ابن الرومي:
ويلاه إن هي أقبلتْ أو أدْبرت
وقْعُ السِّهام ونزْعُهنَّ أليمُ
ومن قول أبي تمام:
فلا تَحسَبا هندًا لها الغَدرُ وحْدَها
سجيَّةُ نفسٍ، كلُّ غانيةٍ هِندُ
ويقول آخر:
هي الضِّلَعُ العوجاء لستَ تُقيمها
ألا إن تقويم الضُّلوع انكسارُها
أتجمع ضعفًا واقتدارًا على الفتى
أليس عجيبًا ضَعْفها واقتدارُها
ونظرات علماء النفْس قابلة للمناقشة والمراجعة، وتَجارِب الشعراء ظُنُون تَحتمِل الصدقَ والكذب، ولكن ما جاء في القرآن والسُّنة قضايا صادقة؛ إذا دُرِستْ طبائعُ المرأة على أساسها، كانت دراستها صحيحة مُتقبَّلة.
وهاكم نماذج مما جاء في السُّنة من أحاديث خاصة بطبيعة المرأة وسلوكها:
قال صلى الله ه وسلم : ((يا مشعر النساء، تَصدَّقن؛ فإنِّي رأيتُكنَّ أكثرَ أهل النار))، قلن: وبمَ يا رسول الله؟ فقال: ((تُكثِرن اللعنَ، وتَكفُرن العشير)).
وقال صلى الله ه وسلم : ((لن يُفلِح قوم ولَّوا أمرَهم امرأة)).
وقال صلى الله ه وسلم : ((النساء حبائل الشيطان))، وقال: ((ما تركتُ بَعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء)).وقال: ((أُريتُ النارَ، فإذا أكثر أهلها النساء؛ لأنهن يَكفُرن العشيرَ، ويَكفُرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهرَ، ثم رأتْ منك شيئًا، قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط)).
وقال صلى الله ه وسلم : ((ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودين أخلب لذي لُبٍّ منكن))، ولعل أبلغ وصْفٍ في تصوير طبيعة المرأة، وأجمع لما قيل فيها، وأوجز عبارة – كلمة الرسول صلى الله ه وسلم الجامعة، وهي قوله: ((المرأة كالضلع، فإذا ذهبتَ تُقيمها كسرتها، وإن تركتَها استمتعتَ بها وفيها عِوَج))، ويقول صلى الله ه وسلم أيضًا: ((استوصوا بالنساء خيرًا)).
وسواء كان ذلك القول صريحًا أو كناية، فمحصله أن طبيعة المرأة تُباين طبيعةَ الرجل، وعبثًا يحاول أن يَحمِلها على الاستقامة الكاملة التي يَنشُدها، والموافقة التامة التي يصبو إليها، وعليك مُداراتها ما استطعت، وغض الطرف عن كثير من هَفَواتها؛ ليلتئم شَمْلُك، ويَعمُر عُشُّك، وإلا أفلَتَ الزِّمامُ من يدك، وانفرط عِقد سعادتك.
على هدي هذه الإرشادات النبوية والقرآنية عن طبيعة المرأة، ينبغي أن يُنظَر إليها، ويُقدَّر وضْعها في مَيدان حياتها، ويُتخيَّر لها ما يلائمها من أعمال، ولا يُلتَفت إلى دُعاة المساواة ودعاواهم، ولا يُسترسَل معهم في الجدال؛ فالجدال فيما قرَّرته الطبيعة وصدَّقته الشريعة والواقع من التباين بين المرأة والرجل عبثٌ ومُكابَرة؛ فالمساواة مستحيلة ولن تتحقَّق، وإذا تَحقَّقت تَقوَّض المجتمعُ وانهارت أركانه، وإن كثيرًا مما نُعانيه من الانحرافات هو بعض آثار دعوى المساواة.
وخير لنا من دعوى المساواة أن نُعيد النظرَ فيما وقعنا فيه، وأن نُحسِن توزيع الأعمال بين الفريقين، ويُجعَل لكل فريق ما يُحسِنه، وما هيَّأته له الطبيعة وواقع الحياة، وليس بنا من حاجة أن نَذكُر أن التاريخ الإنساني منذ عُرِف لم يُسجِّل إلا قلة من النساء، زاحمن الرجال في تَحمُّل المسؤوليات والنهوض بعظائم الأمور، تتلاشى آحاد أعدادهن في ملايين الرجال الذين شادوا صُروحَ الحضارة، وأسهموا في ازدهار الوجود وإسعاد البشرية، وأملوا على التاريخ صحائفَ أمجادهم، على حين ظلَّت المرأة مستجيبة لطبيعتها، تلهو بألوان الزينة وأنواع الرَّفَه واللهو، وما أصدق ما قال الشاعر:
كُتِب القَتْل والقتالُ علينا
وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ