بقلم/ فضيلة الدكتور الشيخ عادل حسن الحمد
قال تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 36-37]
إن معرفة طبيعة حواء من خلال النص الشرعي؛ القرآن والسنة، تسهل على الرجل معرفة طريقة التعامل معها، وفهم تصرفاتها، ومنبع هذه التصرفات، والتماس العذر لها، وكيفية توجيهها التوجيه الصحيح.
ولا تتحقق السعادة للرجل مع حواء، إلا إذا علم طبيعتها، فلا يكلفها فوق طاقتها، ولا يطلب منها ما يخالف هذه الطبيعة.
وأسرة أبينا آدم مع أمنا حواء لم تذكر في أول سورة البقرة إلا لحكمة يراد منا إدراكها، والعمل بموجبها.
إن أبينا آدم وأمنا حواء لما أكلا من الشجرة، بتسويل الشيطان لهما، لم يستغل آدم الموقف ويلقي باللوم على حواء وحدها وينزه نفسه من الخطأ، لكنه اتجه إلى تصحيح الخطأ بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل.
إن العاقل إذا ذكر بالله تذكر وتاب، ولم يبرر لنفسه الخطأ، وهذا ما فعله آدم وحواء.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين لنا موقف حواء من الأكل من الشجرة، وأثر هذا الموقف على بناتها من بعدها عبر الزمن.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله((وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَعْضِ، بَعْضُ الأَنْوَاعِ، وَهُوَ عَدَاوَةُ الإِنْسِ وَالْجِنِّ، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي اهْبِطُوا لآدَمَ وَزَوْجِهِ وَإِبْلِيسَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ عَدَاوَةُ بَعْضِ أَفْرَادِ نَوْعِ الْبَشَرِ، إِنْ كَانَ ضمير اهْبِطُوا لآدَم وَحَوَّاءَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِعْلامًا لَهُمَا بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ عَمَلِهِمَا يُورَثُ فِي بَنِيهِمَا، وَلِذَلِكَ مَبْدَأُ ظُهُور آثَار الاخْتِلاف فِي تَكْوِينِ خِلْقَتِهِمَا، بِأَنْ كَانَ عِصْيَانُهُمَا يُورث فِي أَنْفُسِهِمَا، وَأَنْفُسِ ذُرِّيَّتِهِمَا دَاعِيَةَ التَّغْرِيرِ وَالْحِيلَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَإِنَّ الأَخْلاقَ تُوَرَّثُ، وَكَيْفَ لا وَهِيَ مِمَّا يُعَدَّى بِكَثْرَةِ الْمُلابَسَةِ، وَالْمُصَاحَبَةِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو تَمامٍ:
لأَعْدَيْتَنِي بِالْحِلْمِ إِنَّ الْعُلا تُعْدِي
وَوَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ بَيْنَ هَذَا الأَثَرِ، وَبَيْنَ مَنْشَئِهِ الَّذِي هُوَ الأَكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَنَّ الأَكْلَ مِنَالشَّجَرَةِ كَانَ مُخَالَفَةً لأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَفْضًا لَهُ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِالْفَائِدَةِ مِنْهُ، دَعَا لِمُخَالَفَتِهِ الطَّمَعُ وَالْحِرْصُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لِأَنْفُسِهِمَا؛ وَهُوَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالاسْتِئْثَارُ بِخَيْرَاتِهَا، مَعَ سُوءِ الظَّنِّ بِالَّذِي نَهَاهُمَا عَنِ الأَكْلِ مِنْهَا، وَإِعْلامِهِ لَهُمَا بِأَنَّهُمَا إِنْ أَكَلا مِنْهَا ظَلَمَا أَنْفُسَهُمَا، لِقَوْلِ إِبْلِيسَ لَهُمَا: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَاف: 20].
فَكَذَلِكَ كَانَتْ عَدَاوَةُ أَفْرَادِ الْبَشَرِ مَعَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الأُلْفَةِ وَالأُنْسِ وَالاتِّحَادِ، مَنْشَؤُهَا رَفْضُ تِلْكَ الأُلْفَةِ وَالاتِّحَادِ لأَجْلِ جَلْبِ النَّفْعِ لِلنَّفْسِ، وَإِهْمَالِ مَنْفَعَةِ الْغَيْرِ، فَلا جَرَمَ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْخَاطِرِ الَّذِي بَعَثَهُمَا عَلَى الأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَبَيْنَ أَثَرِهِ الَّذِي بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمَا، وَالَّذِي سَيُوَرِّثُونَهُ نَسْلَهُمَا، فَيُخْلَقُ النَّسْلُ مُرَكَّبَةً عُقُولُهُمْ عَلَى التَّخَلُّقِ بِذَلِكَ الْخُلُقِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى عَقْلِأَبَوَيْهِمَا، وَلا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْخُلُقَ الرَّاجِعَ لإِيثَارِ النَّفْسِ بِالْخَيْرِ، وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْغَيْرِ، هُوَ مَنْبَعُ الْعَدَاوَاتِ كُلِّهَا؛ لأَنَّ الْوَاحِدَ لا يُعَادِي الآخَرَ إِلاَّ لاعْتِقَادِ مُزَاحِمَةٍ فِي مَنْفَعَةٍ، أَوْ لِسُوءِ ظَنٍّ بِهِ فِي مَضَرَّةٍ.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ أَخْلاقِيَّةٍ وَهِيَ: أَنَّ أَصْلَ الأَخْلاقِ؛ حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا، هُوَ الْخَوَاطِرُ الْخَيِّرَةُ وَالشِّرِّيرَةُ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ الْخَاطِرُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِعْلٌ فَيَصِيرُ خُلُقًا، وَإِذَا قَاوَمَهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ صَارَتْ تِلْكَ الْمُقَاوَمَةُ سَبَبًا فِي اضْمِحْلالِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعَاصِي، وَكَانَ جَزَاءُ تَرْكِ فِعْلِ مَا يَهُمُّ بِهِ مِنْهَا حَسَنَةً، وَأَمَرَتْ بِخَوَاطِرِ الْخَيْرِ، فَكَانَ جَزَاءُ مُجَرَّدِ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ حَسَنَةً وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْهَا، وَكَانَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْهَمِّ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، كَمَاوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً- ثُمَّ قَالَ- وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ)) (رواه البخاري)، وَجَعَلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَغْفِرَةًفِي حَدِيثِ:إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي فِيمَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا(رواه البخاري))).(التحرير والتنوير 1/435)
ويشهد لهذا المعنى الذي ذكره الطاهر بن عاشور ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن نسيان آدم وعن خيانة حواء؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَي كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أي رَبِّ مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ. فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أي رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أي رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِىَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ)).(رواه الترمذي)
هذا في آدم، وأما حديث حواء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ :” لَوْلا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ، وَلَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ”.(رواه البخاري)
قال القاضي عياض رحمه الله: ((قوله (وَلَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا) يعني: أنها أمهن فأشبهنها بالولادة، ونزع العرق، لما جرى لها في قصة الشجرة مع إبليس)).(إكمال المعلم بفوائد مسلم4/682)
وقال ابن الجوزي رحمه الله: ((وأما خيانة حواء زوجها، فإنها كانت في ترك النصيحة في أمر الشجرة، لا في غير ذلك، والمراد أن بني إسرائيل لما نهوا أن يدخروا فخالفوا، فسد اللحم، واطردت الحال فيه عند كل مدخر، ولما خانت حواء زوجها، اطردت الحال في بناتها)).(كشف المشكل 3/504)
وقال الطيبي رحمه الله: ((ولولا أن حواء خانت آدم، بإغرائه وتحريضه على مخالفة الأمر بتناول الشجرة، وسنت هذه السنة، لما سلكتها أنثى مع زوجها)).(الكاشف عن حقائق السنن 6/308)
وقال ابن حجر رحمه الله: ((قَوْله (لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجهَا) فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ حَوَّاء فِي تَزْيِينهَا لآدَم الأَكْل مِنْ الشَّجَرَة حَتَّى وَقَعَ فِي ذَلِكَ، فَمَعْنَى خِيَانَتهَا، أَنَّهَا قَبِلَتْ مَا زَيَّنَ لَهَا إِبْلِيس حَتَّى زَيَّنَتْهُ لآدَم، وَلَمَّا كَانَتْ هِيَ أُمّ بَنَات آدَم أَشْبَهَنَهَا بِالْوِلادَةِ، وَنَزَعَ الْعِرْق فَلا تَكَاد اِمْرَأَة تَسْلَم مِنْ خِيَانَة زَوْجهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْخِيَانَةِ هُنَا اِرْتِكَاب الْفَوَاحِش حَاشَا وَكَلا، وَلَكِنْ لَمَّا مَالَتْ إِلَى شَهْوَة النَّفْس مِنْ أَكْل الشَّجَرَة، وَحَسَّنَتْ ذَلِكَ لآدَم، عَدَّ ذَلِكَ خِيَانَة لَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدهَا مِنْ النِّسَاء، فَخِيَانَة كُلّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِحَسَبِهَا. وَقَرِيب مِنْ هَذَا حَدِيث (جَحَدَ آدَم فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّته).
وَفِي الْحَدِيث: إِشَارَة إِلَى تَسْلِيَة الرِّجَال فِيمَا يَقَع لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ أُمّهنَّ الْكُبْرَى، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَبْعهنَّ، فَلا يُفْرَط فِي لَوْم مَنْ وَقَعَ مِنْهَا شَيْء مِنْ غَيْر قَصْد إِلَيْهِ، أَوْ عَلَى سَبِيل النُّدُور، وَيَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ لا يَتَمَكَّن بِهَذَا فِي الاسْتِرْسَال فِي هَذَا النَّوْع، بَلْ يَضْبِطْنَ أَنْفُسهنَّ وَيُجَاهِدْنَ هَوَاهُنَّ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ)).(فتح الباري 6/368.)
نكمل غدا إنشاء الله.
والحمد لله رب العالمين