بقلم الدكتور عبد الحليم قنديل
ونستون تشرشل حارس الإمبراطورية الأخير، وأعظم رؤساء وزارات بريطانيا شهرة ، نسبت إليه عبارة تقول أن “الديمقراطية أسوأ نظام عرفته البشرية” ، لكنه يلحق العبارة بتحوط يقول فيه “ولكن البشرية لم تعرف نظاما أفضل” ، أى أن الديمقراطية مطلوبة ومفيدة ، وإن لم تكن كذلك دائما ، فنجاحها مرتبط عند تشرشل بنوعية نخبة البرلمان والحكم التى تنتجها ، فقد تفرز الأصلح ، وقد تنتهى إلى الأسوأ ، وهذه خبرة خاصة بالزعيم البريطانى البارز ، الذى حصل على جائزة نوبل فى الأدب ، وعاش لأكثر من تسعين عاما ، وشهد أيام الامبراطورية البريطانية العسيرة ، وقادها إلى نصر أخير ضد نازية هتلر ، لكنه سقط فى الانتخابات التالية للحرب مباشرة ، وإن عاد كبطة عرجاء إلى رئاسة الوزراء أوائل خمسينيات القرن العشرين ، وخلفه أنتونى إيدن المهزوم فى “حرب السويس” نقطة النهاية التراجيدية للامبراطورية ، ولم يكن لتشرشل بعدها ، سوى أن يعتزل حتى مات أواسط الستينيات .
والمعنى الباقى ، أن الديمقراطية قد لا تكون نظاما مثاليا ، لكن سيرة الدول لم تعرف ما هو أفضل منها إلى اليوم ، فقد تكون صفتها التمثيلية إلى تراجع ، مع ظواهر متنامية لضعف الإقبال على التصويت الانتخابى ، وإلى حد تصير معه الأغلبية الانتخابية غير ذات صفة مؤكدة ، فكثيرا ما تكون الأغلبية التى تفرزها الانتخابات ، هى ذاتها الأقلية الشعبية عموما ، ناهيك عن أوضاع البرلمانات المعلقة ، التى لا تكون فيها الأغلبية الانتخابية لحزب بذاته ، مما يدفع إلى تكرار الجولات الانتخابية ، أو إلى تشكيل حكومات ائتلافية متناقضة من داخلها ، وبما يؤدى إلى نوع من الشلل السياسى ، يطول أو يقصر زمنه ، أو يقود إلى تفضيل النظام الرئاسى ، وحيث تكون السلطة مركزة فى يد الرئيس لا البرلمان ، لكن الديمقراطية عموما ، معنى أوسع من متاعب أو مزايا النظم البرلمانية أو الرئاسية أو المختلطة ، وأكبر من مجرد إجراء انتخابات دورية ، تكون هى الطريق لتداول السلطة ، فالتداول مجرد مشهد ظاهر للديمقراطية ، التى تتسع لتتضمن عناصر أخرى جوهرية ، أهمها حكم القانون ، والتعددية الفكرية والسياسية ، وضمانات الفصل بين سلطات التنفيذ والتشريع والقضاء ، مع كفالة الحريات والحقوق العامة والخاصة .
ولا نتصور أن الديمقراطية ستكون بمنأى عن مراجعات ما بعد جائحة كورونا ، فقد بدت الجائحة كاشفة ، وليست منشئة لعوار النظم المسماة بالديمقراطية ، التى بدت مضطربة ومذعورة ومتدنية الكفاءة فى الحرب ضد الوباء ، إذا ما قيست بنجاح مبكر واثق لنظام تسلطى بلا شبهة كالنظام الصينى ، وبلغ العوار ذروته فى النظام الأمريكى ، الذى يعد نفسه عاصمة الديمقراطية فى الدنيا كلها ، والدولة الأقوى فى موازين الاقتصاد والسلاح ، وقد لا تكون المقارنة هنا بين الديمقراطية والتسلطية فى ذاتهما ، بل فى مدى اقتران الديمقراطية بمعايير الكفاءة والعدالة ، فالرئيس الأمريكى ترامب ـ مثلا ـ منتخب بحسب القواعد الديمقراطية الموضوعة ، لكن وجوده فى البيت الأبيض دليل فاقع على غياب معانى العدالة والكفاءة فى التصويت الانتخابى ، وقد يعيدنا ذلك إلى تنبيه تشرشل عن نوعية النخبة كمعيار لجدوى الديمقراطية ، أضف إليها ظواهر الانتفاخ فى شخصية ترامب ، الذى يتحدث من موقع قوة موهومة ، والقوة غبية عمياء بطبعها ، ولا تلتفت أبدا إلى معانى العدالة ، وهنا ينبه تشرشل نفسه إلى أنه “عندما تكون الأمم قوية لا تكون عادلة” ، كلام تشرشل هنا منسحب على تاريخ الامبراطورية التى عاش ظلالها الأخيرة ، ورجل ارستقراطى مثله قد لا يلتفت إلى معانى أخرى للقوة ، كقوة الطبقات وطغيانها على المجتمع مثلا ، وعلى نحو ما أدت إليه تطورات الرأسمالية المتوحشة ، أو الموصوفة تدليلا بلقب “الليبرالية الجديدة” ، فقد نشأت الديمقراطية إلى جوار التطور الرأسمالى ، وكان “برلمان وستمنستر” البريطانى مطلبا لدافعى الضرائب ، وعلى جولات تداعت فى توسيع حقوق التصويت ، انتهت إلى إتاحتها لعامة الناس ، لكن الطبقات الأقوى أوجدت ممثليها ، وكلما زاد التركز المالى فى يد الطبقات العليا ، كلما أفرغت الديمقراطية من معانيها الشعبية الأوسع ، وتدنت عناصر الكفاءة والعدالة فيها ، وعلى نحو ما حدث مع صعود الرأسمالية المتوحشة منذ زمن ثاتشر فى بريطانيا وريجان فى أمريكا ، وتضاعف فوارق عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية ، واستيلاء طبقة الواحد بالمئة على نصف الثروة العامة ، وتحول الحملات الانتخابية إلى صناعة مالية وإعلامية بحتة ، وبما كاد يحول الديمقراطية ونظامها إلى هياكل فارغة ، تفقد جاذبيتها بإطراد عند عموم المصوتين ، وقد لا يصح التعميم هنا ، لكن المعادلة تبقى صحيحة عموما ، فكلما زاد التوحش الرأسمالى ، ضعفت جدوى الديمقراطية ، وكلما ظلت هناك جوانب عدالة اقتصادية واجتماعية ، كما فى تجارب الرأسمالية الاجتماعية فى ألمانيا مثلا ، أو اتصال نسبى لتقاليد “دولة الرفاه” ، كما فى دول اسكندنافيا بالشمال الأوروبى ، كانت النظم فى الدول الأخيرة أكثر عدالة وكفاءة ، وعلى نحو ما أظهرته سيرة الحرب ضد جائحة كورونا ، فلم يأت تفوق هذه الدول نسبيا من فراغ ، بل جاء كثمرة المزاوجة فى حدود معقولة بين الديمقراطية والعدالة ، وهو ما حرمت منه دول أوروبية “ديمقراطية ” ضائعة فى “البين بين” ، كما جرى فى إيطاليا وأسبانيا وفرنسا ، التى حلت فى ترتيب مآسى كورونا وضحاياها بعد أمريكا وبريطانيا مباشرة ، وحيث بلغت المأساة أعلى ذراها ، وآلت الديمقراطية إلى عملية تمثيل على الناس لا تمثيل للناس .
والمحصلة فيما نرى ، أن إصلاح الديمقراطية لا يكون بإنكارها ، بل بإدراك العبرة والدرس ، والسعى لإغناء الديمقراطية ، وربطها بالعروة الوثقى مع أولويات عدالة النظام الاقتصادى والاجتماعى ، فقد أثبتت التجارب تلو التجارب فى أوروبا وأمريكا ، وفى ديمقراطيات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، أن الفصل بين حرية التصويت الانتخابى وحرية رغيف العيش ، لا يؤدى أبدا إلى ديمقراطية صحيحة مغرية ، تتسع مجالات الاقتناع بها ، أو التطلع إليها ، فلا يصح فصل الحريات السياسية عن الحريات الاجتماعية ، ولا الفصل فى الحقوق ، فالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ذات القدر من الأهمية ، وربما تزيد ، عن أولويات ضمان الحقوق والحريات السياسية ، فحق العمل مهم كحق التصويت ، وحق السكن مهم كحق إنشاء الأحزاب ، وحق العلاج مهم كتشكيل البرلمانات ، والحق فى الحياة الكريمة يعادل حق اختيار الرئيس ، والتهميش الاجتماعى أسوأ من اعتقالات السجون ، والتوزيع العادل للثروة يوازى توزيع السلطة ، وإطلاق طاقات المجتمع فى الإبداع الإنتاجى هو الضمان الأول لحرية المثقفين وصناع الرأى ، والمظالم الطبقية الفادحة تدهس ثمار الديمقراطية السياسية ، وعلى موجات تفكير تدافعت ، ظل السجال والخصام دائما بين حقوق المجتمع وحقوق السياسة ، خصوصا مع العوار الذى جعل الديمقراطية وممارساتها العملية ، كأنها شأن خاص بالساسة ومصالحهم وطبقاتهم ، وبالأحزاب ومماحكاتها ومناوراتها ومفاسدها ، وبتحولها إلى طبقة انتفاع عازلة معزولة ، خاصة فى المجتمعات الأكثر تخلفا ، وهو ما قد يستثير نوعا آخر من الديمقراطية ، مدعوما بالثورة الهائلة فى التكنولوجيا ووسائط الاتصال ، هو ما نسميه “ديمقراطية الشارع” ، وفوراته الدورية ، التى قد تهدد ما هو قائم ، أو تطيح برءوس فيه ، ولكن من دون مقدرة بالضرورة على بناء نظام ديمقراطى بديل جديد ، لا يقوم بغير نخبة ديمقراطية اجتماعية جديدة ، تدمج الحقوق السياسية مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى نسق واحد ، تتساوى كل عناصره فى الأولوية المطلقة ، وتنهى الفصام النكد ، الذى كرسته الليبرالية المريضة ، بجعلها الحقوق السياسية وحدها فى مقام الحقوق الطبيعية غير الموقوفة على شرط ، بينما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تصفها بالمكتسبة المتمايزة بحسب وضع كل فرد ، فكل الحقوق طبيعية ومكتسبة فى آن ، وهو ما لا يوفره سوى مجتمع ونظام تكافؤ فرص عادل ، هو وحده الذى يستحق صفة الديمقراطية ، ومعنى حكم الشعب لنفسه وبنفسه .
وقد تبقى إشارة واجبة إلى مجتمعاتنا العربية المغيبة الغائبة تماما عن معنى الديمقراطية وممارساتها النافعة ، والمتطلعة بالأحلام المشروعة إلى تجاوز نكبات القهر والفقر والفساد والاستبداد ، والمعانية من غياب أى تمثيل شعبى صحيح عن مصالحها ، والغارقة فى سجالات الدينية والعلمانية والعسكرية والمدنية ، إلى غيرها من معارك “دونكيشوتية” تضل وتضلل عن جواهر الصدام حول الحقوق الوطنية والاجتماعية ، وعلى هذه المجتمعات وطلائعها فيما نظن ، أن تفتح طريق الأمل ببرنامج تمهيد خماسى النقاط ، يتضمن تأكيد الاستقلال الوطنى ، وأولوية التصنيع الشامل ، ورد اعتبار العدالة الاجتماعية ، وكنس امبراطوريات الفساد ، مع إطلاق الحربات وتبييض السجون السياسية ، ومن دون هذه الخطوات جملة وبالتلازم ، فلا معنى لحديث عن الديمقراطية من أصله ، إلا أن يكون حديثا فى مقام الأمنيات المراوغة .