قالَ الشَّاعرُ

كتبه: د. محمد عبد الباسط عيد
متابعة: د. محمد علي عطا

أحببت شعراء الغزل الأمويّ بشكل خاص؛ ففي شعرهم دراما نفسية هي أحد تجليات الدراما الاجتماعية والسياسية التي عرفتها مجتمعاتهم المتحولة المتغيرة.. أحببت شعر عمر وجميل وقيس والأحوص الأنصارى (ت105)، أحببت الأحوص لبيت واحد من الشعر؛ وقد يكفي المرء أن يشرق على الدنيا ببيت واحد من الشعر؛ وهذا لو تعلمون عظيم…!

لقد اعتبرت بيت الأحوص بيتي؛ أقلب فيه النظر، وأردده بين نفسي، أنشده وينشدني، وهذا البيت هو:
إذَا قُـلْتُ أنْساهَــا، وأخْلَــقَ ذِكْــرُهَـا * * تَثَـنَّـتْ بِـذِكْـرَاهَـا هُمُـومٌ نَـوَافــرُ

  • المفردات: أخلق: بلى وانتهى.
    تثنّت: ارتدت علىَّ.
    هموم نوافر: هموم متفرقة، وكأنها تأتيه من كل وجه.

لا يتحدث الأحوص عن امرأة معينة يريد أن ينساها، بقدر ما يتحدث عن حال أو شعور ينتاب العاشق حين يظن أن تجربته القديمة قد انتهت.
لقد لمح الأحوص صاحبته، أو قل اشتبهت له، (من الاشتباه)، وحين يحدث هذا يعايش الشاعر مقام الــــ (بَــيْن بيـْـنٍ): بين الوجود والعدم، بين الحقيقة والخيال، بين الأُنْس والرهبة، بين اليقين وصدى الصوت الذي يتردد في أعماق قلب فارغ … هذا الاشتباه حين يصيب القلب لا يعود صاحبه مرة أخرى بشرًا سويًّا؛ يتقلب في الآفاق وتتقلب به الأحوال، فلا هو يعرف صاحبته، ولا يعرف نفسه، ولا يصلحه قيام ولا قعود ولا نوم ولا يقظة…!
الأحوص المسكين!
لن يعرف هدأة القلب مرة أخرى؛ وقد أخذته الظلال بعيدًا بعيدًا… ولكن الحياة تمضي، والإنسان لا يتوقف عن العمل، فيظن مع مرور الوقت أنه قد نسي صاحبته، وأنّ ذكراها قد بليت وانتهت، ولكن الذي يحدث غير ذلك تمامًا، وكيف لحالة الاشتباه أن تنتهي؟ إنك فيها كمن أدرك ولم يدرك، وعانق ولم يعانق… واقترب دون أن يلامس…!
الأحوص المسكين!
لتتأمل معي كيف التقى الألم بالفن في الفعل “تثنَّت”، ولا أحسب كلمة هنا أجدى من هذه الكلمة، ولا أكثر منها ملاءمة لهذا المعنى، فالتَّثنِّي تمايُلٌ وتردُّد، التَّثنِّي قلب متفتحة مسامه، متشققة جوانبه، وحين يحدث هذا يحتاج القلب إلى معجزة إلهية كي يبقى ويستمر… أولا ترى أن الله تولى بنفسه ربط مسام قلب أم موسى حين تشقق فزعًا وجزعًا: “إنْ كَادَتْ لتُبْدي به لولا أن ربطنا على قلبها”؟
يحتاج القلب الملتاع إلى رباط لا يستطيعه غير إله قدير، لا لينتهي الألم، وإنما ليتمكن الإنسان من الحياة مع حالة الاشتباه التي تشعلها الهموم التي وصفها الأحوص الفنان بوصف معجز، يعز على من هو مثلي استبداله بغيره، إنها الهموم (جمع همّ) وإنها لـــ” نواااافر”.
الأحوص المسكين.!
أتعرف كيف يعيش القلب حالة الاشتباه هذه؟ هنا يحيا الإنسان بجسد تتناوشه السهام من كل جانب، وكأننا إزاء سيزيف آخر، السهام أبدية والصراخ أبدي، لا يموت عاشق الاشتباه ولا يحيا …الهموم النوافر تأتيك من كل اتجاه، وأنت عاجز عن صدها وحماية نفسك….أو لعلك لا تريد أن تصدها، وهذا حقيقي ففي حالة البَيْن بَيْن كثير من الألم وكثير من الأمل أيضًا
الأحوص المسكين!
يدفعه الغياب إلى الحضور، وكأن كل غياب يقظة، وكل يقظة تحفر عميقًا بسهام الصدى في أعماق الروح، لن يرتاح الأحوص، ولن يصل صاحبته وسيقضي ما بقي له من عمر بيـْـن بيـْـن…!

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى