عرض كتاب “لماذا فشلت الليبرالية؟”

كتبه: محمد سيد بركه

في كتابه “لماذا فشلت الليبرالية؟”، يتفق الكاتب باتريك دينين، أستاذ العلوم السياسية في “جامعة نوتردام”، مع الصوت الذي كان سائداً خلال انتخابات عام 2016 بين الناخبين، حيث كانت عبارة “كلهم متشابهون” هي الشائعة بين الأميركيين الذين شعروا بالسأم من كلا الحزبين؛ الديمقراطي والجمهوري.
يرى دينين الليبرالية- في الكتاب الذي صدرت ترجمته مؤخراً ضمن سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ، ونقله إلى العربية يعقوب عبد الرحمن، هي عقيدة النخب السياسية في أميركا اليوم، سواء كانت تميل إلى اليسار أو اليمين، وقد وضعت قبل حوالي 500 عام وكانت العقيدة المؤسّسة للولايات المتحدة.
يرى دينين إن التوق الواسع الانتشار اليوم لزعيم قوي، لديه الرغبة في استعادة السيطرة الشعبية على أشكال الليبرالية للحكومة البيروقراطية والاقتصاد المعولم، يأتي بعد عقود من التفكيك الليبرالي للمعايير الثقافية والعادات السياسية الأساسية للحكم الذاتي، ومردّ ذلك بالنسبة إلى الكاتب، أن التحرّر الاقتصادي القاسي ترك الكثير من الناس غير آمنين ماديًا.
من جهة أخرى، يلفت دينين إلى أوجه الأثر الاجتماعي لليبرالية في أميركا، فيقول من الإنجازات العملية الرئيسية نقل النساء إلى العمل كقوة في السوق الرأسمالي، وهذا التحرّر “المريب”، بحسب الكاتب أدّى إلى أن يُنظر إلى إنجاب الأطفال وتربيتهم على أنه تقييد للحرية الفردية.
في رأي الكاتب، فإن هذا التحرر ساهم في التزام الليبرالية بـ “الإجهاض عند الطلب” بتعبير دينين وهذا أدى إلى انخفاض معدل المواليد الإجمالي في جميع أنحاء العالم المتقدّم. هنا يبدو الكتاب، متحاملاً على نمط حياة المرأة الحديثة، فيقول “نعتبر اليوم أن العلامة الأساسية لتحرير المرأة هي تحررها المتزايد من بيولوجيتها”.
وصفت الصحافة كتاب دينين بأنه جدال كاثوليكي مناهض للحداثة، لا سيما وأنه يدعو إلى تصوّر مستقبل بعد الليبرالية يضمّ مجتمعات يفضّل أن تكون دينية وأن تعمل هذه الجماعات على تنمية “ثقافات المجتمع والرعاية والتضحية بالنفس والديمقراطية على نطاق صغير”. لكن قد يكون في هذا شيء من التحامل، فقد وصفه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما “بأنه كتاب يقدّم رؤى مقنعة لفقدان المعنى والمجتمع الذي يشعر به الكثيرون في الغرب، وهي القضايا التي تتجاهلها الديمقراطيات الليبرالية على مسؤوليتها الخاصة”.
يلفت الكاتب أنه من بين الأيديولوجيات الثلاث السائدة في القرن العشرين، الفاشية والشيوعية والليبرالية، لم يبق إلا الأخيرة، وهذا خلق وضعاً غريباً يميل فيه مؤيدو الليبرالية إلى نسيان أنها أيديولوجية وليست كما يعتقدون أن الحالة النهائية الطبيعية للتطوّر السياسي البشري، ويجادل أنها أيديولوجيا مبنية على أساس التناقضات؛ وأنها تعزّز عدم المساواة المادية.
يعمد باتريك دينين في كتابه إلى تشريح المراحل التاريخية التي مرت بها الليبرالية، بداية من اقتلاع الأرستقراطية القديمة باسم الحرية ووعود المشاركة في الحكم، حتى وصلت إلى ذروة نجاحها بسقوط الأيديولوجيات السياسية المنافسة وهي الفاشية والشيوعية وكيف ومتى بدأت رحلة السقوط المدوية والأساليب والوعود الخادعة التي قدمتها الليبرالية للمواطنين.
كما يعمد المؤلف د.باتريك دينين إلى تشخيص أعراض أمراض الليبرالية في الولايات المتحدة بوجه خاص، وكيف سبب نجاحها الباهر فضح المساوئ وأوجه الخلل الفاضحة التي تعانيها!
ويحلل د.باتريك دينين كيف اضطلعت الليبرالية بتغيير شكل المؤسسات الإنسانية في أربعة مجالات مختلفة وهي: السياسة والحكومة والاقتصاد والتعليم والعلوم والتكنولوجيا، وكيف سيطرت عن طريق ذلك على مصائر الأفراد بزعم توسيع حرياتهم، وكيف أصبحت أدوات تحرر الإنسان هي نفسها قضبان السجن الحديدية التي يقبع خلفها!
الليبرالية مصطلح أجنبي معرّب من كلمة: Liberalism في الانجليزية وهي تعني (التحررية) ويعود اشتقاقها ومصدرها الى الحرية!
من الشخصيات العامة العالمية (المرأة الحديدية) مارغريت تاتشر التي اتبعت سياسة اقتصادية ليبرالية محضة في صراعها من حزب العمال!
وقد عمدت تاتشر إلى خصخصة كبرى الشركات البريطانية مثل: السكك الحديدية، البريد الملكي، شبكة الهواتف، الشركات العاملة في مجال الفحم وبيعها إلى المستثمرين كما باعت شركات وطنية كبرى معروفة على المستوى العالمي مثل: اتصالات بريطانيا، شركة روز رويس لصناعة السيارات والخطوط الجوية البريطانية والشركات العامة في مجال استخراج الفحم، وقلصت العلاوات الاجتماعية التي تتقاضاها العائلات، خصوصا الفقيرة والمتوسطة وسمحت تاتشر للأغنياء وأرباب العمل للاستثمار بسهولة وفق القوانين الليبرالية والاقتصادية التي مررتها في البرلمان الداعم الليبرالي!
ويختلف تطبيق الليبرالية في الدول الاسكندنافية عن الدول الديموقراطية وبقية دول أوروبا والولايات المتحدة التي طبقت الليبرالية منذ قرابة 250 عاما.
وفي التطبيق الفعلي لليبرالية نجدها فشلت بوعودها نتيجة حدوث انحراف متزايد في توزيع الثروة وفساد المؤسسات التقليدية وفقدان الثقة بالسلطة السياسية والدينية والصحافية وبين المواطنين أنفسهم، وتزايد خيبة الأمل في تحقيق العدالة المتساوية للجميع.
الليبرالية مذهب سياسي باعتبارها أكثر مكرا ودهاء في حين يشبه د.باتريك دينين الليبرالية ببرامج نظام تشغيل الحاسب الآلي غير المرئي حين يتعطل أو ينهار النظام!
سيجد القراء الكرام في كتاب لماذا فشلت الليبرالية على اختلاف مشاربهم الفكرية أن فكر المؤلف لا يتحدى تفكيرهم فقط، بل أيضا العديد من الافتراضات العالقة في أذهانهم عن السياسة ونظامنا السياسي.
ويبقى كاتب الكتاب مصرا على فكره فيما يجنح المثقفون العرب الليبراليون إلى التنفيذ المستقل لهذه النظرية وفق معتقداتهم الفكرية والأيديولوجية وهذا يعني ما بعد الليبرالية وربما ميلاد جديد لهذه النظرية وفق بيئات مختلفة والتي تركز على إنشاء ثقافات جديدة قابلة للحياة واقتصاديات ترتكز على البراعة مستحقة لاسم الليبرالية!

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى