بقلم المستشار الدكتور نبيل بو غنطوس
خبير سياسي واقتصادي لبناني
اذا كان لبنان الحديث صنيعة الكنيسة المارونية، فان من هم على رأس هذه الكنيسة اليوم مستمرون على خطى اسلافهم، فاذا استعرضنا باختصار، ادوار اهم البطاركة الموارنة في الزمن الحديث والمعاصر، نجد انه ومنذ تأسيس لبنان الكبير، لبنان الجديد على يد البطريرك الياس الحويك، بات لبنان الكبير حقيقة بعد ضم الاقضية الاربعة، بدل لبنان المسيحي الصغير المفصّل على قياس الموارنة والمسيحيين معهم.
كذلك عند اعلان الاستقلال ايام البطريرك عريضة، تحولت البطريركية المارونية الى حارسة لهذا الاستقلال وحامية له، كما ان البطريرك المعوشي جاهد خلال ولايته البطريركية رافضا كل منطلقات الحروب الأهليه، ورافضا خرق الدستور، لجهة التمديد للرئيس كميل شمعون يومها.
اما البطريرك الراحل مار نصرلله بطرس صفير، الذي انتخب في عز الحرب الاهلية، واثناء تهجير المسيحيين من الكثير من المناطق في لبنان، فقد جهد لتحقيق أهداف اربعة، هي وقف الحرب الأهلية، وإعادة إحياء الدولة ومؤسساتها، وإعادة وصل ما انقطع بين اللبنانين خلال الحرب كما إعادة الحياة إلى المؤسسات الكنيسة، ونجح فيها الى حد كبير. لكن هما كبيرا ظل يؤرقه، هو الاحتلال السوري للبنان والمسمى بالوصاية السورية.
فبعد الانسحاب الاسرائيلي، بأربعة اشهر، أدرك ببعد نظره ونتيجة الاحداث التي تجري على الساحة اللبنانية، ان السوريين يحجمون ويماطلون في تنفيذ بنود كثيرة من اتفاق الطائف، وكان اهمها بالنسبة له، انسحابهم الى منطقة البقاع بحسب مواد الاتفاق، وتيقن البطريرك صفير،انه يجري الالتفاف على هذه البنود تحت عدة مسميات، اهمها اعتبار ان الوجود السوري في لبنان “شرعي ومؤقت”. فأطلق من خلال مجلس المطارنة الموارنة النداء الشهير، الذي أسس للاستقلال الثاني، كما رعى لقاء قرنة شهوان، الذي تحول الى ذراع سياسية للبطريرك ولمجلس المطارنة الموارنة، الرافضين لاستمرار الوصاية السورية على لبنان.
ولانه، ما اشبه اليوم بالامس، يستشعر البطريرك الماروني الحالي، مار بشارة بطرس الراعي ان هناك وصاية جديدة تفرض على لبنان وتقوده ارضا وشعبا ودولة ومؤسسات الى منزلقات خطيرة، وصاية تتخذ لنفسها من القابضين على السلطة اليوم، غطاءا لها تحت عناوين شتى، ليس للبنان اية مصلحة في ان يجاريها او يخضع لها.
راقب البطريرك الراعي الاوضاع في البلاد مطولا، بدءا من:
اولا- انتفاضة 17 تشرين الاول الشعبية، التي طالبت بتغيير الذهنية المتحكمة بمفاصل البلاد وطريقة ادارتها، الى المحاصصة السائدة ومنطق توزيع المغانم في كل القطاعات.
ثانيا- تأييده ومن منطلق ابوته الروحية للشعب اللبناني باسره، انتافضة الناس على الجوع والفقر والذل والتسلط والفساد والهدر وكل الموبقات التي دمرت مفهوم الدولة في لبنان.
ثالثا- تخوفه من انهيار الوضع الاقتصادي المتسارع، والبطالة الضاربة بين الطبقات الكادحة، بعد صرف آلاف العمل والموظفين، واقفال مئات المؤسسات، وازدياد نسببة الفقر واقتراب خطر الجوع الذي يدق ابواب اللبنانيين.
رابعا- الانهيار المريع لقيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي، والذي افقدها قدرتها الشرائية بشكل كامل.
خامسا- حجر المصارف على ودائع المواطنين، لا بل تبخرها، ما يعني ان آلاف العائلات فقدت جنى عمرها، وقرشها الابيض المودع في المصارف ليقيها شر العوز في يوم قد يكون اسودا.
سادسا- تغاضي السلطة عن نداءاته المتكررة المطالبة بايجاد معالجات سريعة للوضع المتدهور.
سابعا- استشرافه ان الوضع آخذ بالتدهور اكثر فاكثر في ظل العقوبات الاقتصادية المهدد بها لبنان، واخطرها، اخراجه من النظام المصرفي العالمي، في وقت لا توجد فيه ارقام دقيقة وموثوقة تحدد نسبة الدين العام الغارق فيه لبنان.
ثامنا- حالة العزل التي يواجه بها لبنان من اشقائه العرب لا سيما الخليجيين منهم، نتيجة مواقف اهل السلطة تجاههم.
تاسعا- تأكده شبه المطلق ان السلطة والحكومة الحالية، غير جادين في احداث تغييرات جوهرية في طريقة ادارة امور البلاد، والتي اوصلت لبنان وشعبه الى الخراب.
عاشرا- تخوفه والحالة هذه، من ارتفاع مضطرد في نسبة هجرة الشباب المسيحيين، بعد فقدانهم لاي امل باصلاح امور البلاد، وبالتالي فقدانهم لاي امل بمستقبل في بلد يحكمه وصولييون واتباع وخدام عند الغرباء.
حادي عشر- التنبه لمحاولة تغيير وجه لبنان الحضاري، وجعله ظهرا رديفا لمحور يواجه اليوم العالم الحر، بعضهم يسميه محورا ممانعا، والبعض الاخر يسميه محور الشر والدرل المارقة.
ثاني عشر – ضرب البنية الاقتصادية اللبنانية، وتحويل اقتصاد لبنان من اقتصاد حر الى اقتصاد مراقب وموجه ومحصور ومحدود.
اذن استشعرت بكركي الخطر الزاحف، وادركت ان رغم كل نداءاتها، يدير اهل السلطة الاذن الصماء، وهي ادركت ان ليس من حل لوضع لبنان وازماته الاقتصادية والحياتية والمعيشية، الا في السياسية، فاطلق البطريرك نداءه بالحياد الايجابي للبنان، ومطالبا بابعاده عن سياسة المحاور، ومذكرا المسؤولين بوجوب النأي بالنفس، عن كل مشاكل المنطقة، كما هو وارد في اعلان بعبدا.
ولم تكن بكركي، لتطلق هذا النداء، لو انها لا تدرك سلفا ان الغالبية العظمى من اللبنانيين تؤيدها في طرحها، اذ رأت الغالبية في نداء البطريرك الراعي ترجمة صريحة وبالفم الملآن لطموحاتها الغير قادرة على الافصاح عنها نتيجة الترهيب من هنا والضغوطات من هناك.
لكن من يجرون لبنان الى سياسة المحاور، ويغرقونه وشعبه بالتزامات ليست في مصلحته بشئ، انبروا مباشرة او بالواسطة يهاجمون الموقف المتقدم للبطريرك، تحت الف حجة وحجة، لا بل صعدوا من حدة خطابهم تجاه قضية الحياد، اذ انهم ادركوا، ان الامور ستتفلت من يدهم، وان ما كانوا يعملون له ويخططون له من سنين، قد يتبخر امام تصميم البطريرك على موقفه، خصوصا بعدما تحول الصرحين البطريركيين في بكركي والديمان الى محجة، لكل من يؤيد حياد لبنان.
لكن من الواضح ان بكركي قالت كلمتها، وهي ستحملها في الاسابيع القادمة، الى روما والفاتيكان، التي بالطبع ستعطي بركتها لمواقف البطريرك، كذلك قد يحمل البطريرك نداءه هذا الى الامم المتحدة وواشنطن، وقد يعرج به في طريق العودة، على دول عربية شقيقة للبنان، وهو هنا لا يبحث، عن دعم كلامي، بل يبحث عن غطاء دولي شامل يحمي حياد لبنان ويحمي شعبه ويصونه.