لبنان واسرائيل بين الاعتراف والتطبيع.

بقلم المستشار الدكتور نبيل بو غنطوس
خبير سياسي واقتصادي لبناني.

وقع لبنان واسرائيل اتفاقية للهدنة في 23 آذار من عام 1949، بعيد انتهاء الحرب بين اسرئيل وبعض الدول العربية على ارض فلسطين (مصر وسوريا ولبنان والاردن والعراق)، وتم بموجب هذه الاتفاقية رسم حدود لمنطقة الهدنة وهي الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة. وكانت المرة الاولى التي اعترف فيها لبنان بوجود دولة اسرائيل على حدوده الجنوبية.

وبحسب القانون الدولي، فاي اتفاقية، تعقد بين دولتين جارتين ولو متعاديتين ويتم حفظ نسخ من الاتفاقية لدى الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي، اكان ذلك بوجود وسيط او راعي دولي ام عدمه، تعتبر الاتفاقية من وجهة نظر القانون الدولي، اعتراف ضمني وصريح، من الدولة الاولى بالثانية وبالعكس.

وبالرغم من اتفاقية الهدنة، لم تعرف الحدود بين البلدين، الهدوء لاوقات طويلة، اذ شنت اسرائيل سلسلة اجتياحات وضربات على لبنان، من اجتياح 1978 الى اجتياح 1982 واقامت شريطا حدوديا في الجنوب اللبناني، ثم انسحبت منه في العام 2000، لكن الى خط اطلق عليه تسمية الخط الأزرق جرى ترسيمه بعد الانسحاب، وليس إلى الحدود اللبنانية، أي إلى خط الهدنة الآنف الذكر.

وفي هدا الاطار ايضا، يذكر انه بعدما شنت اسرائيل في حزيران من العام 1982، عملية “سلامة الجليل”، واجتاحت قسما كبيرا من الاراضي اللبنانية، فرضت على لبنان التوقيع على ما عرف باتفاق 17 أيار من سنة 1983، (وهو اعتراف رسمي ضمني ثاني بوجود دولة اسرائيل)، ونص يومها على انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان وإنهاء حالة الحرب بين البلدين في مدة تتراوح بين 8 إلى 12 أسبوعا، الى تأليف لجنة اتصال مكونة من الجانبين، على ان تشرف الولايات المتحدة الأميركية على التنفيذ. هذا الاتفاق ووجه بالكثير من المعارضة في لبنان، وخصوصا من سوريا ومن الاحزاب التي كانت تدور في فلكها في ذلك الوقت، “جبهة الإنقاذ الوطني”. وتم العمل على اسقاطه بالقوة، منعا لتطويره لاحقا الى تطبيع او توقيع اتفاقية سلام على غرار ما فعلته مصر في العام 1978، وذلك بالرغم من انه كان تم التصديق عليه واقراره في المجلس النيابي اللبناني، حيث وجد الرئيس اللبناني أمين الجميل نفسه يومها، مضطرا إلى إعلان إلغاء اتفاق 17 أيار مع إسرائيل، في محاولة لاعادة الهدوء الى البلاد.

وفي نفس السياق، شنت اسرائيل يوم 11 نيسان من العام 1996، عملية اطلقت عليها “عناقيد الغضب”، في محاولة منها لكسر حزب الله، لكنه وفي يوم الثامن عشر من نيسان، وقعت مجزرة “قانا”، حيث استهدف القصف الاسرائيلي مقرا لقوات الأمم المتحدة كان يحوي لاجئين لبنانيين، ما ادى الى استشهاد عدد كبير منهم، فتحرك العالم باجمعه استنكارا للمجزرة، فاقر تفاهم نيسان الذي اوقف العمليات الحربية بين البلدين، وحظي بدعم إقليمي ودولي بدءا بموقف الإدارة الأميركية والدول السبع ووصولا إلى قمة القاهرة، مع الاخذ بعين الاعتبار، ان هذا التفاهم بين البلدين ليس بديلا عن حل دائم، ولا يعدو كونه وقفا للعمليات العسكرية، ومثل الاتفاق اعتراف ثالث من لبنان بوجود دولة اسرائيل.

14 تشرين الاول 2020 موعد لمنازلة جديدة بين لبنان واسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، وكلا الفريقين حشد لهذه المهمة، خبراء وخرائط ووثائق ومعطيات وشهادات، ليزيد من قوة موقعه التفاوضي، وفي النهاية هناك اتفاق ترسيم سينتج بعد صولات وجولات من المفاوضات، وسيكون هناك اعتراف رابع بدولة اسرائيل.

بين الاعتراف والتطبيع
في الاساس، رفضت الدول العربية ومعها لبنان، قبول قيام دولة إسرائيل…وتجسد هذا الرفض في الحروب المتكررة، التي بدأت منذ ذلك التاريخ بين الكيان الاسرائيلي الذي سيطر على فلسطين كاملة وبين الدول العربية على مدى عقود. وولد هذا الرفض في اللاوعي العربي، رفضا مطلقا لكيانية هذه الدولة الغاصبة، ورفضا مطلقا لاي سلام يقوم معها. لكن اقدام مصر على توقيع اول اتفاقية سلام مع اسرائيل، فتح الباب امام محاولات لوقف النزف المستمر في الشرق الاوسط، وفتح الباب واسعا امام محاولات حثيثة لدفع دول عربية اخرى للاقتداء بمصر، التي وجهت بمحاولات عزل وتطويق من بعض الدول العربية يومها. ومؤخرا وقعت الامارات والبحرين اتفاقيات تطبيع مع اسرائيل جديدة، ومن المتوقع ان توقع دول عربية اخرى على اتفاقيات مماثلة قبل نهاية هذا العام. وهنا، وفي المجال السياسي البحت، يطرح ملوك ورؤساء عرب، نظريات عديدة، منها ان يطبع العرب علاقاتهم مع اسرائيل مقابل انسحابها من الاراضي العربية التي احتلتها قواتها عام 1967، في مقابل وجود رأي عربي اخر يرفض التطبيع، بمعنى التبادل التجاري والسياحي الخ، مع الدولة العبرية، ويفضل حصر العلاقة في حدود الاعتراف السياسي. اذ ان الاعتراف الرسمي بالدول أمر ممكن حدوثه من خلال القرارات السياسية أما التطبيع فمن غير الممكن أن يتم بدون الإرادة الشعبية، وبالنظر إلى الحالة العربية-الإسرائيلية نجد ان القيادات السياسية لبعض الدول العربية في واد والارادات الشعبية في واد اخر.

ونخلص الى ان التطبيع والسلام مع اسرائيل في ظل الظروف الراهنة، أمران أحلاهما مر، أما الحرب فهي عادة أكثر مرارة، لكن يتوجب الاعتراف علنية، ان توسع مروحة التطبيع بين اسرائيل ودول عربية جديدة، قد يصيب من لبنان مقتلا في الاقتصاد بكافة قطاعاته، وخصوصا الخدماتية منها، فجل ما يرجوه لبنان، هو وقف الخروقات والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة عليه جوا وبرا وبحرا. اما من ناحية توقيع اتفاقية سلام او تطبيع للعلاقات بين الدولتين، فالشعب اللبناني، لم ينس بعد الآثار المدمرة طوال عقود من الزمن، للاعتداءات الاسرائيلية على اهله وارضه وبناه التحتية، ولن يكون بقادر على المسامحة سريعا، انما الى اين سيتجه لبنان السياسي بعد انهاء ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، وحدها المعطيات السياسية في الاقليم والمنطقة سترسم خط السير، من ضمن معادلة الشرق الاوسط الجديد القادم.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى