عن الأزهر وشيخه

بقلم عبد الحليم قنديل

قد لا يكون “الأزهر الشريف” أقدم جامعة دينية فى العالم الإسلامى ، فقد سبقته إلى الوجود جامعة “القرويين” فى المغرب و”الزيتونة” فى تونس ، لكن الأزهر يظل بامتياز هو الجامعة الأكثر تأثيرا من نوعها ، وعنده الكلمة الفصل الأعظم اعتبارا ، وهو “فاتيكان” الدنيا الإسلامية إن جاز التعبير ، برغم أن الإسلام ينكر معنى السلطة الدينية ، فكل مسلم طائره فى عنقه ، وليس فى الإسلام رجال دين ، بل علماء ومتفقهون ، يؤخذ عنهم ويرد عليهم ، وبقدر ما يطمئن المسلم الملتزم بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة المتواترة بغير ارتياب .

وقد برز دور الأزهر وشيخه فى الجدال الأخير المتصل ، مع حملات الإفتراء على الإسلام فى فرنسا والغرب بعامة ، ومع رسوم الإساءة البذيئة للنبى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، ومع جرائم تشويه الإسلام من قبل جماعات التكفير والتفجير والإرهاب ، التى تصب فى طاحونة العداء للإسلام نفسها ، وتزود الكارهين بمدد لا يتوقف من أسباب الكيد للإسلام ولنبيه الكريم ، وكان لشيخ الأزهر أحمد الطيب كلمته الفاصلة الهادية ، التى أدانت قطعيا عمليات الإرهاب الأخيرة من “باريس” إلى “نيس” و”فيينا” وغيرها ، وعدتها عدوانا جهولا على أصول الإسلام ، واجتراء متنطعا على دعوة النبى الأعظم إلى حفظ حرمة النفس البشرية ، فى غير حالات القتال دفاعا عن ديار المسلمين ضد المحتلين ، ثم دعوة شيخ الأزهر إلى تشريع دولى يجرم ويحرم صنوف الكراهية والتمييز والإساءة للأديان وأنبياء الله ، وقد أعاد الشيخ الجليل بيان دعوته فى الاحتفال السنوى بذكرى مولد النبى الشريف ، وهو تقليد معمول به فى مصر من مئات السنين ، وبحفاوة شعبية ورسمية ، لاترى مثلها سوى فى عدد من دول ومراكز انتشار المذهب الشيعى ، برغم أن مصر سنية المذاهب عموما ، ومحبة آل البيت عندهم طاغية ، فمصر لا تعرف هذه المذهبية المقيتة المنغلقة ، والجامع الأزهر نفسه نشأ فى ظل حكم المعز لدين الله الفاطمى ، وكان مذهب الأزهر شيعيا حين تأسس قبل ألف وخمسين سنة ، واسمه هو مذكر “الزهراء” فاطمة بنت النبى الخاتم ، ومع حكم صلاح الدين الأيوبى محرر القدس ، ومن جاءوا بعده ، جرى طرد الفاطميين الشيعة ، وغلق الجامع الأزهر نفسه لنحو مئة سنة ، ثم أعيد فتحه فى زمن حكم المملوكى الظاهر بيبرس ، وصارت سيرته العلمية سنية أساسا ، وإلى أن جرى الاستقرار على تقليد إنشاء منصب “شيخ الأزهر” فى الزمن العثمانى ، وصولا إلى الشيخ الحالى الرابع والأربعين فى الترتيب الزمنى ، وهو “مالكى” المذهب ، تماما كأول شيخ للأزهر محمد بن عبد الله “الخراشى” ، الذى دخل لقبه فى عامية المصريين بعبارة “يا خراشى” ، وهى صيحة يطلقونها كلما استهولوا ظلما حاق بهم ، فشيخ الأزهر له مكانة معنوية سامية عند المصريين وغيرهم من المسلمين ، لا تمنع الخلاف معه طبعا ، لكنها لا تغفل واجب توقيره ، وبقدر علمه وسلوكه وحمايته لكرامة الأزهر من تغول سلطات السياسة .
وقد دخل الشيخ الطيب من أوسع الأبواب فى تاريخ الأزهر ، ليس فقط لنفسه المستغنية عن مطامع الحياة الدنيا ، فالرجل عالم متبحر بروح متصوفة ، ولا يتقاضى مليما من راتبه ، وهو فى درجة رئيس الوزراء وظيفيا ، ويدفع من راتبه وأموال عائلته الميسورة لفقراء المسلمين وعوامهم ، وبرغم أنه لا يعد معارضا للسلطة السياسية ، وقد عاصر حكم مبارك فحكم الإخوان ثم حكم السيسى ، عبر السنوات العشر الفائتة من عمر توليه مشيخة الأزهر ، إلا أن الرجل أبدى صلابة لافتة ، ودافع بجسارة عن حياض الأزهر واستقلاليته العلمية ، وفاز بأحدث معاركه قبل شهور قليلة ، وبالتحديد فى 24 أغسطس 2020 ، حين جرى إحباط مشروع قانون حمل عنوان “إعادة تنظيم دار الإفتاء” ، واضطر مجلس النواب لسحب المشروع الذى كان وافق عليه مبدئيا أواسط يوليو من العام نفسه ، لكن “قسم التشريع” بمجلس الدولة رفض نصوص القانون ، واعتبرها غير دستورية ، وتعتدى على دور الأزهر المنصوص عليه فى المادة السابعة من الدستور ، التى تقرر أن “الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة ، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه ، وهو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية ، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم ، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه ، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل ، وينظم القانون طريقة اختياره ، ومن بين أعضاء هيئة كبار العلماء” ، وقانون الأزهر ينص أيضا على اختيار “كبار العلماء” لمفتى الديار المصرية ، ويعتبر دار الإفتاء هيئة متصلة علميا بالأزهر ، وهو ما أراد القانون المسحوب تغييره ، وإلحاق دار الإفتاء بتبعية مستحدثة لمجلس الوزراء ، وكان لافتا أن شيخ الأزهر اعتبر سحب القانون المريب انتصارا للدستور قبل المشيخة ، فالرجل مع علمه الدينى الأزهرى الغزير ، حاصل على دكتوراه الفلسفة من جامعة “السوربون” ، واجتهاداته فى “الدولة الوطنية الدستورية” المحققة لمقاصد الإسلام معروفة للكافة ، واستمساكه بالعروة الوثقى بين نصوص القرآن وأحاديث السنة النبوية الصحيحة ، دفع السلطات أحيانا إلى مضايقته ، بل وشن حملات إعلامية مناهضة جارحة ، صمد الرجل فى وجهها ، وبتأييد شعبى جارف ، حصده الشيخ بثباته وبلاغة بيانه ، وبحفظه ما استطاع لمكانة الأزهر ، الذى يدير هيئات علمية بحثية كبرى ، وشبكة تعليمية هائلة الاتساع ، تضم الملايين من المراحل الابتدائية حتى الجامعة ، فجامعة الأزهر بكلياتها الدينية والعملية ، تضم اليوم نحو نصف مليون طالب ، والوافدون من غير المصريين إليها سنويا ، أكثر من 40 ألف طالب فى كليات الجامعة الدينية ، ومن نحو 120 دولة ، يتلقون تعليمهم الدينى وتأهيلهم اللغوى ، وتصرف لهم منح شهرية ، ويقيم غالبهم كضيوف فى “مدينة البعوث الإسلامية” ، التى نشأت فى زمن حكم جمال عبد الناصر ، وكان الأخير هو صاحب قانون تطوير الأزهر عام 1961 ، وتوسيع مناهجه لتشمل علوم الدنيا إلى جوار علوم الدين واللغة ، فقد كان عبد الناصر يؤمن كما قال بأنه “طول عمر هذه المنطقة وهى تدافع عن الدين ، ولم تمكن أى خارج عن الدين من أن يكون صاحب سلطة فيها” ، وكان عبد الناصر يتبنى ويبلور التفسير التقدمى للدين فى مواجهة التفسيرات الرجعية الراكدة ، ويرى فى الإسلام دين التطور والعدالة والحياة ، وهو ما برز ظاهرا فى المذكرة الإيضاحية لقانون تطوير الأزهر ، وقد جاء بنصها أن “الإسلام فى حقيقته لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا (..) والإسلام يفرض على كل مسلم أن يأخذ بنصيبه من الدنيا ، وكل مسلم يجب أن يكون رجل دين ورجل دنيا” ، وقد زاد عبد الناصر ميزانية التعليم الأزهرى بثمانية أضعاف من 1952 إلى وقت رحيله أواخر 1970 ، وقفز بدور القوة الناعمة للأزهر والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية أشواطا غير مسبوقة ولا ملحوقة ، ولم تكن لنهضة الأزهر أن تتم بغير الثروة العلمية الهائلة لرجاله ومشايخه ، برغم أن قانون تطوير الأزهر جرت معارضته بضراوة من دوائر متكلسة ، واشتدت الحملة عليه بعد الانقلاب على اختيارات عبد الناصرفى السياسة والاقتصاد عقب حرب أكتوبر 1973 ، وكان أبرز فرسان الحملة الظالمة رجل بشعبية الداعية محمد متولى الشعراوى ، الذى عاد قبل وفاته أواسط 1998 ، وزار ضريح عبد الناصر ، واعتبر قانون تطوير الأزهر من الحسنات الصالحات الباقيات لجمال عبد الناصر ، ونشرت الصحف وقتها صورة الشيخ الشعراوى ، وهو يقرأ الفاتحة ترحما على روح عبد الناصر “خادم الإسلام” كما قال .
وبرغم الحروب الطائفية المستعرة اليوم فى عالمنا العربى والإسلامى المنكوب ، والانشقاقات المذهبية المزرية ، وحملات قطع رءوس المسلمين بيد من ينسبون أنفسهم للإسلام ، إلا أن “الأزهر الشريف” ظل على موقفه العلمى الدينى التاريخى الرصين ، يدين الإرهاب بحزم قاطع ، ومن دون أن يكفر أحدا حتى “الدواعش” ، فالإسلام الصحيح لا يكفر ناطقا بالشهادتين ، ولا “يشق قلب أحد” بحسب توجيه النبى الأكرم ، ولا يفرق بين رسل وأنبياء الله جميعا ، ولا يزدرى طائفة مسلمة تؤمن بالقرآن وهدى النبى ، وقد كان للأزهر الشريف سبقه الملهم ، منذ أصدر شيخه العظيم المجدد محمود شلتوت فتواه الملزمة أواخر خمسينيات القرن العشرين ، التى تقرر “جواز التعبد على المذهب الشيعى الجعفرى كما المذاهب السنية الأربعة الكبرى” ، كانت الفتوى تريد إعادة توحيد المسلمين دينيا ، بعد أن تفرقوا قبلها شيعا على مدى ثلاثة عشرة قرنا ، منذ حروب “الفتنة الكبرى” ولا يزالون ، فالأزهر هو الجامعة العلمية الأكبر لعموم المسلمين ، وليس دارا لتحزب أو تطييف أو تنطع أو تفريق لصف الأمة .

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى