تجربتي مع كتابات العقاد

كتب: أد. أبو اليزيد الشرقاوي

لا أزعم أني رأيته أو ذهبت إليه لأنه مات وأنا رضيع.
ولكن عرفت كتاباته وأنا معيد بعد أن سجلت رسالتي في شاعر ديواني هو محمود عماد، وقابلت ابنه المرحوم محمد محمود عماد، وكان يعرف العقاد شخصيًّا والعقاد يزوره في بيته؛ لأن والده محمود عماد وفّر للعقاد المأوى والوظيفة ذات يوم حين كان العقاد مشردًا مفلسًا على وشك الرجوع إلى أسوان، فاحتواه محمود عماد ودبّر له وظيفة في ديوان الأوقاف، واعتبر العقاد ذلك دينا في رقبته لمحمود عماد؛ فكان يزوره في بيته في “حدائق القبة”، وكان محمد محمود عماد حين قابلته يقترب من الستين، ولديه معلومات عن (عمو العقاد)، وأمدني بخطابات العقاد لوالده، وإهداء العقاد كتبه لوالده بخطه المميز، وبعض الأوراق عليها مناوشات شعرية بينهما، يكتب العقاد بيتا ويجيزه محمود عماد ببيت، والقصائد التي قالها العقاد في مدح محمود عماد وردود محمود عماد عليه، وأغلب هذه الأوراق غير منشورة.
في هذه الفترة كنت قريب الصلة بالدكتور العظيم حمدي السكوت، الذي كتب أعظم دراسة قرأتها عن العقاد في السلسلة الرائعة “أعلام الأدب المعاصر في مصر”، وكان العقاد هو الأديب الخامس، وصدر عنه كتاب في جزأين كل جزء يقترب من 600 صفحة، وكتب الدكتور السكوت 170 صفحة هي أفضل ما قرأت عن العقاد، ويسّر لي هذا الكتاب وقربي من الدكتور السكوت الاطلاع على مقالات لا يصل إليها أحد، والوقوف على تفاصيل لا يعرفها العقاديون المعاصرون.
في الدكتوراه درست العقاد؛ لأن موضوعي كان تطور المعجم الشعري من الإحياء إلى أبوللو، وبين الإحياء وأبولو الديوان، والعقاد هو ملك مدرسة الديوان، فقرأت إنتاجه الشعري كله وديوان شكري كاملا وديوان المازني كاملا، وكنت معجبا أيما إعجاب بالعقاد؛ فقرأت كل تراثه وكل ما كتبه أحبابه وأعداؤه عنه، وكنت مفتونا به أيما فتنة!
حتى الآن أنا واحد من المفتونين بالعقاد وكتاباته، لكنى أستطيع قراءته بعين الناقد لا عين المفتون، فأرى بجانب عظمته أمورا كثيرة جدًّا تضعه موضع المساءلة، ولا أراه معصوما من النقد والمساءلة.
لذلك عندما أكتب شيئا عن العقاد يهب أحبابه للدفاع عنه والانتصار له، وكأنه معصوم، وهذا المسلك يفسد تلقي العقاد.
العقاد نفسه تعرض لأبشع أنواع الهجوم والتنمر في حياته، وهو شخصيا كان متنمرا رهيبا وعدوانيا كبيرا، وكان مثيرا للعداوات يؤججها عن قصد ويخرج منها منتصرا، وقرأ بعينيه أبشع ألفاظ الشتم والسباب وسمع ذلك بأذنيه.
آن لنا أن نتجاوز مراحل النظر إلى أعلامنا باعتبارهم معصومين من الزلل، هم بشر لهم مالهم وعليهم ما عليهم.
العقاد جامعة ثقافية كبيرة:
أول مقال له نشره عام 1907 وأول كتاب له نشره عام 1911، وظل يكتب إلى أن وافته المنية عام 1964، فترك عددا من الكتب لا يمكن تخيله، فله أكثر من ستة آلاف مقال، وبعض المقالات فصول كاملة، جمع معظمها في كتب ونشرها في حياته، والغالب على كتبه أنها مقالات مجموعة، وبعد وفاته قام أصدقاؤه وأقاربه بجمع مجموعات متشابهة من مقالاته وأعادوا نشرها في كتب فتضخمت كتب العقاد حتى تجاوزت المائتي كتاب؛ ولذلك فالحديث عن العقاد متشعب النواحي والتخصصات.
فيمكن الحديث عن العقاد السياسي (كان عضو مجلس الأمة عن دائرة بولاق)، والكاتب الصحفي، والمحلل السياسي، والمترجم، والشاعر، والناقد، وكاتب السير، والكاتب الفلسفي، وكاتب القصة القصيرة، والكاتب الإسلامي، وله كتابات أخرى كثيرة يصعب تصنيفها، وهو في كل جانب مما سبق كاتب غزير الإنتاج ترك تراثا يستحق القراءة؛ ولذلك عندما تتحدث عن العقاد يجب أن تدرك عن أي جانب من حياة العقاد تتحدث؟
ليست كل كتاباته على نفس الدرجة؛ فبعضها عالي القيمة جدًّا، وبعضها بسيط، وبعضها لا تفيدك قراءته؛ لأنه متعلق بأحداث انقضت ولم يكن تحليله لها مما يستحق الخلود. وسأقف مع بعض هذه المحاور باختصار؛ لآن المقام لا يسمح بالتطويل:
أولا: إسهامات العقاد في القصة القصيرة:
هذا جانب مسكوت عنه، فهو مترجم تسع قصص أمريكية نشرها سنة 1963 في كتاب (ألوان من القصص القصيرة)، وأضاف لكل كاتب تعريفا به وحياته، ومنذ سنة 1925 ترجم ست قصص لأناتول فرانس ونشرها في روز اليوسف، ولم يجمعها في كتاب، وله ثلاث قصص قصيرة منشورة منذ 1942 بعنوان (أحسن حمار) و(كسبنا القضية) و(المسرف الظريف).
ويمكن إضافة روايته سارة إلى محاولاته القصصية، وهي أشهر أعماله القصصية، بالإضافة إلى عشرات المقالات التي تم بناؤها على هيئة قالب قصصي.
والعقاد في الجانب القصصي متواضع جدًّا، أسلوبه جميل وصياغاته مبهرة، لكن البعد الفني والقيمة الفنية له في هذا المجال متهافتة؛ لذلك غاب هذا الجانب وتوارى من حديث الناس عن العقاد.
ثانيا: العقاد المترجم:
هذا من جوانب الإلهام في شخص العقاد فهو الحاصل على شهادة الدراسة الابتدائية فقط عام 1903 بتقدير مقبول (112.5 من160) درجة، تجد في تراثه ترجمات تحتاج إلى متخصص عميق في اللغة الإنجليزية من جهة المحتوى، وإلى متفرغ لذلك من جهة الحجم.
وتأخذ الترجمة عند العقاد شكلين، الأول ترجمة أعمال كاملة سواء أكانت كتبا أم مقالات، وله خمسة كتب مترجمة، أبرزها: (عرائس وشياطين) و(بنجامين فراكلين) و(شاعر أندلسي)، وسبعة مقالات مترجمة منها: (تقرير لجنة ملنر أو تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر) ونشره في أربع حلقات في الأهرام عام1925.
الشكل الثاني وهو ما يتميز به العقاد هو قراءة كتاب بلغة إنجليزية وتقديمه للقارئ العربي في مقال تعريفي بالكاتب والكتاب ومناقشة أهم القضايا الواردة فيه بصورة مدهشة كأنك قرأت الكتاب كاملا.
جمع العقاد هذه المقالات ونشرها في عدة كتب أبرزها (ساعات بين الكتب)، وهو منشور عام 1925 والجزء الثاني منه منشور عام 1945، وأول مقال تعريفي منشور سنة 1916، وسأذكر لك أسماء بعض المؤلفين الذين قرأ لهم العقاد في كتاب واحد فقط هو (ساعات بين الكتب)، فستجد فيه عرض أفكار: هيوم، وطاغور، وأوتوفينجر، وكوريللي، وآلن كي، وجوستاف لوبون، وفرانس، وشكسبير، ووردزورث، وكولريدج، وبيرون، وشيلي، وهيني، وشلر، وجوته، ودانتي، وليوباردي، وأرسطو، وشوبنهاور، وسنيكل، وليكس، ورينان، وليودفتش، وتريفلان، واينشتين، وبيتهوفن، وتوماس هاردي، وجيبون، وروبنس، وكارميل، وميكافيلي، ولودفج، وموير، ونبتشه، ووالدشتاين، وأبانيز، وبورجيه، ومرجكفسكي، ومترلنك، وابسن، وشو، وبودلير، ودافنشي، وروسو، وفولتير، ونتوفتش، وكبلنج، ولسنج، وجوبينو، وتشمبرلين، ومقدو، ودزرائيلي، وفورد، ونيكلسون، ولينين، وآخرين غيرهم لم أذكرهم خشية الإطالة.
تخيل أنه قرأ لهؤلاء وناقشهم وعرض أفكارهم في كتاب واحد، يحتوي -إلى جانب هذه الأسماء- على مقالات مدهشة بعنوان (الشعر في مصر).
هذا في كتاب واحد، وستجد له مئات المقالات تدور حول عرض كتاب إنجليزي قرأه العقاد وفهمه وأقام معه حوارا خصبا لم يسبقه إليه أحد.
أنا شخصيا واحد من الذين استفادوا أيما فائدة من قراءة هذه المقالات في أول حياتي العملية؛ ففيها العالم الثقافي الأوربي معروضا بعبقرية وعقلية منظمة جدًّا، وبكل أسف هذا من الجوانب التي يغفلها محبو العقاد، ولم أجد دارسا وقف عند هذا الصنيع.
وبرغم مرور أكثر من قرن على بدء تعريف العقاد بالثقافة الأوربية على هذا النحو، مازالت هذه المقالات مفيدة للغاية ويحتاج إليها كل مثقف، وأنا أرشّح لمن يرغب كتاب (ساعات بين الكتب ليبدأ به) ولن يندم.
ثالثا: العقاد كاتب السير والتراجم:
هذا من كتابات العقاد المسكوت عنها، ولولا العبقريات ما عرف أحد أن كتابة السير والتراجم تشغل حيزا كبيرا من إنتاجه الثقافي.
وأول كتاب كتبه العقاد عن شخص هو (ابن الرومي حياته من شعره) عام 1931، ويبدو أن العقاد كان مبهورا بشخصيات أدبية لها تأثير فكتب عن: ابن الرومي، وجوته الألماني (تذكار جيتى)، و(سعد زعلول سيرة وتحية)، والعقاد مفتون بسعد زغلول، ورجعة أبي العلاء الذي كان محل اهتمام في هذه الحقبة من طه حسين ومحمود شاكر، وكتب عن هتلر (هتلر في الميزان).
ومن العام 1940 اتجه العقاد إلى تقديم الرموز الإسلامية إلى شباب الأمة؛ فيكتب عدة كتب خفيفة يمكن أن تقرأها في جلسة، وفيها معلومات عامة مكتوبة بأسلوب رشيق يخلو من التعقيد ويناسب سن الشباب في المرحلة الإعدادية والثانوية، ويقدم لهم معرفة ممتازة عن رموز الثقافة العربية مثل: (أبوالشهداء: الحسين بن علي)، و(داعي السماء: بلال بن رباح)، و(ابن رشد)، و(فاطمة والفاطميون)، و(ذو النورين عثمان بن عفان)، و(مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية)، و(معاوية بن أبي سفيان)، و(عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ الإمام محمد عبده)، و(الصديقة بنت الصديق)، و(جميل بثينة)، و(شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة)، و(الشيخ الرئيس ابن سينا)، و(أبو الأنبياء: الخليل إبراهيم).
وكتب عدة كتب عن شخصيات عالمية لم يعد أحد يذكر هذه الكتب، منها (فرنسيس بيكون: مجرب العلم والحياة)، و(روح عظيم: المهاتما غاندي)، و(برنارد شو)، و(سن ياتس أبو الصين)، و(القائد الأعظم محمد علي جناح)، و(بنجامين فرانكلين)، و(التعريف بشكسبير)، و(الرحالة كاف: عبد الرحمن الكواكبي)، وبدأ في كتابة فصول كثيرة عن حياته ويومياته نشر بعضها كتابًا في حياته والآخر نشره أحبابه بعد موته في كتب.
وأهم كتاباته في السيرة والتراجم وأشهرها، هي العبقريات، وهذه تحتاج إلى وقفة خاصة.
وهذه دعوة لقراءة هذه الكتب التي أشرت إليها، ومن المؤسف أن أكثر هذه الكتب لم تعد مذكورة.
أول ما قرأته للعقاد كان كتابه (أبو الشهداء: الحسين بن علي) في مكتبة المدرسة الثانوية، (وكانت مدرسة مسيحية)، ووقع حب الحسين والعقاد في قلبي بسبب هذا الكتاب؛ لأنه سهل وبسيط ويناسب هذه المرحلة.
رابعًا: العقاد كاتب العبقريات:
هذا من الجوانب التي تثير الحساسية في كتابات العقاد، وهذا موضوع يستحق الدراسة، وآمل من دارسي الماجستير أو الدكتوراه بحث كيف استقبل القراء عبقريات العقاد؛ لأن تلقّي هذه العبقريات يحتاج إلى دراسة فاحصة.
والعبقريات هي الأعمال الباقية للعقاد، ولولاها لتراجعت أسهمه الثقافية كثيرا، ومعظم من يعرفه ربما لا يعرفه إلا بالعبقريات.
وهي مجموعة كتب مبدوءة بكلمة (عبقرية)، وأولها (عبقرية محمد) 1942، ثم (عبقرية عمر)، و(عبقرية الصِّديق)، و(عبقرية الإمام علي)، و(عبقرية خالد)، و(عبقرية المسيح).
وكان نجاح (عبقرية محمد) دافعا له لكتابة هذه العبقريات، وعبقرية محمد كانت فصولا منشورة قبل ذلك جمعها العقاد وأضاف إليها ونشرها ولكن شيئا ما جعلها مقبولة ومطلوبة، فسار في هذا الاتجاه.
يقدم العقاد في هذه العبقريات القدوة والنموذج الذي يمكن أن نحتذيه من خلال أهم صفاته، وهذا أمر مطلوب في الأمم الناهضة؛ لأنه بذلك يساهم في خلق الرموز المعنوية للأمة، وينجح العقاد في ذلك بكل تأكيد.
لكن النقاد عندما ينظرون إلى هذه العبقريات من جهة البناء الفني، باعتبارها سيرًا ذاتيةً لشخصيات معروفة يرون فيها ضعفا في البناء الفني، فيتهمون العقاد بالضعف الفني، والبناء الفني هو صنعة الحكاية نفسها وتسلسل أجزائها، والحبكة التي تجعل كل جزء مترتبا على ما يسبقه ومؤديا إلى ما يليه، والعبقريات في هذا الجانب ضعيفة، لكنها تعوّض ذلك بالعمق المعرفي وقوة الأسلوب.
وأهم مطعن يوجهه النقاد لها هو أنك بعد أن تقرأ أي واحدة وتسأل ما عبقرية فلان؟ لا تجد إجابة حقيقية عن ذلك من الكتاب الذي قرأته، على سبيل المثال، اقرأ (عبقرية محمد) وبعد الفراغ ابحث عن عبقرية محمد ستشعر أن العنوان غير مطابق لمحتواه.
وأقوى عبقريات العقاد على الإطلاق -على غير ما نتوقع- هي (عبقرية المسيح)؛ فقد تجلت فيها ثقافة العقاد وموسوعيته وإحاطته الهائلة بموضوعه.
أذكر في هذا السياق أن كاهن كنيسة “الأدفنتست” كان يقول لنا إنه أفاد كثيرا من (عبقرية المسيح) بما ساعده على فهم أمور في التراث الديني الكنسيّ. وذكرتُ ذلك لكاهن (مريم العذراء) فأبدى إعجابه الشديد وغير المتحفظ بكتاب العقاد (إبليس: بحث في تاريخ الخير والشر). وأنا شخصيًّا من المعجبين بكتاب (إبليس) و(عبقرية المسيح).
وأيا كان الأمر، فإن العبقريات تظل أهم ما كتب العقاد في مرحلته الدينية، وهي النشاط الذي ضمن لاسمه البقاء، وحتى إن كان البناء الفني لها متواضعا فإن تحليل العقاد العقلي وقوة عباراته ونصاعة حجته تعوّض كل ذلك.
وللعقاد كتب كثيرة منصوص عليها أنها سيرة كما في كتابه عن سعد زغلول و(سن ياتس مؤسس الصين)، ولم يتوقف الدارسون أمامها لمحاكمتها فنيا، وهل تحققت فيها مواصفات السيرة الفنية أم لا؟
أما العبقريات فلم يضع العقاد على غلافها لفظ (سيرة) أو (حياة) ولم يؤكد في مقدماته على أنها سيرة حياة أشخاص، ومع ذلك توقف الدارسون أمامها باعتبارها سيرة حياة هؤلاء العباقرة.
لماذا يصر الدارسون على أن العبقريات سيرة؟
ما الذي يتحقق فيها من مواصفات السيرة؟
لماذا يلجأ العقاد في العبقريات إلى أسلوب فخم لم يستخدمه في الحديث عن الحسين أو جميل بثينة أو عمر بن أبي ربيعة أو بلال؟ مثلا
هل يقف هذا الأسلوب الفخم والمتعالي عائقا أمام القارئ والعبقرية؟
هل فخامة الأسلوب هكذا مما شجع على تلقي العبقرية؟
ما مصدر العقاد في كتابة العبقريات؟ بمعنى تأثر بمن؟ لامبروزو الإيطالي أم إميل لودفيج الألماني؟
كتب العقاد العبقريات بعد 1942 أي بعد 23 سنة من ثورة 19، فلماذا يربط المثقفون بين عبقريات العقاد وثورة 1919؟
هل بالعبقريات بقايا الفكر الشعوبي حيث الاستعلاء والتعاظم؟ أو أن هذه دعوى زائفة؟
هذه عينة من آلاف الأسئلة التي يطرحها استقبال المثقفين لعبقريات العقاد قديما وحديثا، تحتاج إلى استقصاء ودراسة؛ لأن تلقي عبقريات العقاد يبدو محفوفا بشيء كبير من الغموض الثقافي، والدوافع غير المعلنة، فبين التمجيد المبالغ فيه من جهة والتهوين المبالغ فيه من الجهة الثانية تقف العبقريات بمحتواها الفكري صامدة كل هذه السنوات لتسأل: لماذا يتعامل المثقفون معي بهذه الطريقة المريبة؟
فهل من مجيب؟
خامسًا: العقاد الشاعر:
يعتبر العقاد نفسه شاعرا فقط، وكل ما كتبه هوامش على كونه شاعرا، وشعر العقاد يمثل المحل الأكبر للاختلاف والتجريح والانتقاص، لدرجة أنك تقرأ – أحيانا- من ينفي الشاعرية عن العقاد جملة وتفصيلا، وفي المقابل ستجد رد فعل أنصاره يعلي من شاعريته فوق كل شعراء العالم.
للعقاد أحد عشر ديوانا شعريا، عشرة دواوين أصلية واختار منها ديوانا مختارات جمعها هو بنفسه ونشرها.
وإنتاجه الشعري غزير ومتعدد ولغالب دواوينه مقدمات نقدية مهمة جدا.
في أول أربعة دواوين يبدو العقاد ابنا لمدرسة الإحياء والبعث، فبرغم اختلاف موضوعاته الشعرية فإن الأساليب وتشكيل الصور والمعجم والصور الجاهزة واللغة التقريرية والبحور والقوافي، كل ذلك يجعله امتدادا لمدرسة الإحياء والبعث.
من بعد ذلك سيبدو العقاد أكثر تمكنا من اللغة والتشكيل، وغير مهتم بإثبات تمكنه من اللغة تمكنا عميقا، وسيدخل في سياق جديد وحديث كما في ديوانه الشهير (عابر سبيل) بموضوعاته التي لم يتعود عليها الشعر العربي، ومقدمته التي ينقل فيها تصورات كولريدج إلى الثقافة العربية.
لكن للعقاد نصوصا إذا جمعناها فقط تصنع ديوانا كبيرا تضعه في مقدمة شعراء اللغة العربية، بل إن بعض نصوصه لو كتبها شاعر بلغة أوربية عالمية مثل الإنجليزية لأصبحت من عيون الشعر العالمي، وعلى سبيل المثال أشير إلى قصيدته الفريدة من نوعها (ترجمة شيطان).
والتي اعتبرها طه حسين على غير مثال في أدبنا القديم والحديث، وقال عنها زكي نجيب محمود ما معناه إنها أفضل من الأرض الخراب لإليوت والبحار القديم لكولريدج، وبالنسبة لي فهي قصيدة تستحق القراءة عشرات المرات.
ويتهم الناسُ شعرَ العقاد بالصعوبة والغموض المعنوي، وفي ذلك شيء يسير من الصدق؛ لأن قراء الشعر التقليدي تعودوا على قراءة نصوص عاطفية سلسة سهلة خطابية تخاطب الأذن، وربما كان شعر العقاد يتجه إلى الفكر فينظر إلى العالم من منظور جديد ويحاول أن يقدم رؤية جديدة وكونا شعريا جديدا، وبذلك يشعر قارئ شعره بغرابته ليس لأنه صعب وغامض، لكن لأن العقاد يقدم رؤية للكون جديدة لم نتعود عليها.
دواوين العقاد هي: يقظة الصباح 1916، وهج الظهيرة 1917، أشباح الأصيل، أشجان الليل 1928، ثم جمع هذه الأربعة في كتاب واحد اسمه ديوان العقاد 1928، وحي الأربعين 1933، هدية الكروان 1933، عابر سبيل 1937، أعاصير مغرب 1942، وهي قصائد منشورة منذ 1913، بعد الأعاصير 1950، ثم تم جمع الدواوين الخمسة الأخيرة في كتاب واحد اسمه خمسة دواوين للعقاد منشور بعد وفاته بتاريخ 1973، ديوان من دواوين 1958، وأخيرا ما بعد البعد1967 منشور بعد وفاته.
تراث ضخم من الشعر تركه العقاد، دارت حوله معارك متطرفة، آن أن نقرأه بإنصاف، ففيه الكثير من الفائدة والمتعة وهو شعر يضعه في مصاف شعراء اللغة العربية الكبار جدا.
سادسًا: العقاد الناقد:
هذا هو المجال الذي دخل به العقادُ التاريخَ وضمن لنفسه مقعدا فاخرا في قاعة مشاهير الثقافة العربية.
والعقاد ناقد مميز ذو عقل حصيف ورؤية نقدية صافية، يعرف جيد القول من رديئه. ويعرف كيف يكتب ذلك بطريقة مقنعة جدا.
كل ما ذكره العقاد من أفكار نقدية في الكتاب الأشهر في النقد الحديث “الديوان في الأدب والنقد” قاله الناس قبله منذ 1890 لكن الفرق أن الذين سبقوه قالوا هذه الأفكار ومضوا فلما جاء العقاد جعلها أساس التفكير النقدي وليست مجرد أفكار متناثرة عند فلان وفلان.
وعلى مدار 32 سنة منذ 1907حتى1939 ظل العقاد يكتب في النقد بلا توقف وبدون ملل؛ فترك ميراثا ضخما جدا كان جديدا على الذوق العربي لأنه مستوحى من الفكر الإنجليزي.
إذا أردت أن تقف على مجمل تفكير العقاد النقدي فاقرأ كتاب تلميذه محمد خليفة التونسي الذي اختار أهم ما كتبه العقاد في كتاب ممتاز اسمه (فصول من النقد عند العقاد) فهو كتاب كاشف ودال على تفكير العقاد النقدي، وإذا كنت مهتما بالموضوع وأردت أن تعرف المصادر التي قرأها العقاد واستلهم منها هذا الفكر النقدي فاقرأ كتاب الدكتورة جيهان السادات (أثر النقد الإنجليزي في النقاد الرومانسيين في مصر) فهو من الكتب الممتازة ويعطيك صورة كاملة عن مصادر النقد العربي في حقبة العقاد.
كان العقاد مؤمنا بالفكر الرومانسي، والرومانسية مذهب فلسفي في الأساس، واستلهم الأدباء بعض أفكاره فظهر المذهب الرومانسي في الأدب، وشاع بين الناس حتى غلب على ظنهم أنه مذهب أدبي، لكن الحقيقة عكس ذلك.
كان العقاد من المؤمنين بالفلسفة الرومانسية وغلبت عليه طول حياته وكتب ما كتب في كل مجالات الثقافة وهو تحت تأثير الفلسفة الرومانسية، ومن ضمن ذلك كتاباته النقدية.
وإن لم تكن من أنصار الفلسفة الرومانسية فستجد أغلب أفكار العقاد النقدية مثيرة للجدل وتعترض عليها؛ لأنك تنطلق من منطلق فلسفي مغاير، أما إذا كنت من أنصار الفلسفة الرومانسية فلن تجد لها تمثيلا أفضل من كتابات العقاد، وستفهم لماذا يقيم العقاد شأنا عظيما للفردية والذاتية والشخصية، والاعتداد بالذات، ولماذا بحث عن النماذج البشرية التي جسدت هذا المنزع الرومانسي وكتب عنها، ولماذا لا يعجبه في الشعر العربي القديم إلا الشعراء أصحاب الشعور بالذات مثل المتنبي وابن الرومي وبشار، وستفهم سر كتابته العبقريات.
كي تفهم كتابات العقاد حق الفهم يجب أن تكون ملما بالفلسفة الرومانسية، ساعتها ينكشف كتاب العقاد أمامك ويبدو سلسا سهلا متماسكا، وإن لم تتبحر في الفلسفة الرومانسية فستجد فجوات عظيمة في منتج العقاد الثقافي. وربما أحدثك قريبا عن الفلسفة الرومانسية فهي من أهم المؤثرات في الثقافة العربية الحديثة.
سابعًا: العقاد الكاتب الإسلامي:
هذا مجال يتجنب الناس الحديث عنه لما فيه من كلام مثير وسخيف ربما يبدو انتقاصا للعقاد.
اعلم أن العقاد من مواليد 1889 ويكتب منذ 1907 ولم يكن له شأن بالبعد الديني، وحتى في ذكريات أصدقائه عنه لم يذكروا أنه كان متدينا في هذه الحقبة، وكان أعداؤه -وما أكثرهم- يشنعون عليه سخافة أفكاره الدينية، وستجد ذلك -على سبيل المثال- في كتابات الرافعي وانظر (على السفود) ستجد اتهامات دينية للعقاد صريحة، ولكن خصومة الرافعي للعقاد تقلل من شأن هذا السباب. ويعنينا أن العقاد ظل حتى عام 1939 بعيدا عن دائرة الفكر الديني.
في نهايات عام١٩٣٩ دعته الإذاعة لإلقاء حلقات إذاعية في الراديو جمعها ونشرها في كتاب (النازية والأديان السماوية) عام 1940، وهنا سيبدأ التحول الأكبر في حياة العقاد، فيهجر النقد والانشغال به ويهتم بالكتابة الدينية وكان عمره وقتها واحدا وخمسين سنة.
اندمج العقاد بصورة مدهشة في الكتابة عن الفكر الديني وأعلامه ورموزه فأخرج في أول عشر سنوات من 1940 إلى 1950 خمسة وعشرين كتابا، وهذا عدد كبير جدا، وفي الأعوام العشرة التالية من سنة 1951 وكان عمره واحدا وستين عاما إلى عام 1960 أخرج سبعة وعشرين كتابا، أي أنه كتب في عشرين سنة اثنين وخمسين كتابا، وعمره بين الخمسين والسبعين، وفي الأعوام الأربعة الأخيرة من حياته نشر سبعة كتب منها كتاب واحد في أربعة أجزاء (يوميات)؛ أي أنه نشر في 24 سنة 59 كتابا، وهذا عدد كبير جدا. ولاحظ عمره في هذه الحقبة (من51 إلى74سنة) وتذكر العلل والأمراض التي تلازم أصحاب هذا العمر عادة، وأثرها على التركيز والتفكير.
قد تظن خطأ أعداد كتب العقاد الوارد ذكرها ولكن هذا هو ما فعله العقاد ولا أعرف كيف فعل ذلك؛ ففي سنة 1940 نشر كتابين (النازية والأديان السماوية)، و(هتلر في الميزان)، وفي سنة 1942 أخرج للناس عبقريتين: عبقرية محمد وعبقرية عمر، وفي عام 1943 نشر أربعة كتب: عبقرية الصِّديق، وعبقرية الإمام علي، والصديقة بنت الصديق، وشاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة، وفي سنة 1944 نشر كتابا واحدا هو عمرو بن العاص، وفي سنة 1945 نشر سبعة كتب هي جميل بثينة وأبو الشهداء الحسين بن علي، وداعي السماء بلال بن رباح، وعبقرية خالد، وفرنسيس بيكون، وفي بيتي، وهذه الشجرة، واستمر على هذه الوتيرة حتى وافته المنية، ولاحظ أنه في العام 1945 كتب ونشر سبعة كتب. والأغرب من هذا أنه في سنة 1960 وعمره 71عاما نشر سبعة كتب؛ لذلك من الطبيعي أن تكون حصيلة مؤلفاته في 24 سنة 59 كتابا.
هذا هو العقاد جبار الفكر والعقل!
لذلك تفتقد كتابات العقاد الدينية جانب العمق والتحليل الذي اشتهر به العقاد، وتغلب على كتاباته الدينيةِ العاطفيةُ والانفعالية، ويغلف كلَّ ذلك أسلوبُ العقاد الجميل وبراعةُ عبارته، ولعل ذلك ما جعلها تنتشر بين الجماهير لأنها لا تحتاج إلى عقل نقدي متأمل.
دخل العقادُ التاريخَ بكتابه الديوان سنة 1921 وكان ملء السمع والبصر سنة 1939، وانتهت هذه المرحلة بتحوله إلى كاتب إسلامي يخاطب مشاعر الجماهير بكتابات تناسب متوسطى الثقافة فحقق شهرة لم يحققها كاتب إسلامي آخر، غاب العقاد تماما من وعي الجماهير بتاريخه في الشعر والنقد، وهما مجده الحقيقي، وبقي العقاد كاتب الإسلاميات معروفا حتى اليوم، وكان ضعف المحتوى العقلي والفكري والتأملي سببا في انتشارها، فلا تدري هل هذا عيب أم ميزة؟ وهل هو من ذكاء العقاد أم من تدابير القدر؟ فلو لم يتحول إلى كاتب إسلامي وظل يكتب في النقد والشعر لأصبح جزءا من التراث النقدي مثل غنيمي هلال ومحمد مندور، يذكرهما الدراسون في تاريخ الأدب فقط، أما العقاد فقد تجاوز ذلك بكونه كاتبا إسلاميا.
وكي تدرك ما أعنيه بالعاطفية والبعد عن التفكير العقلي المعروف عن العقاد قارن ما كتبه العقاد بما كتبه طه حسين حول الصحابة عثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم، واقرأ لطه حسين (الفتنة الكبرى) واقرأ للعقاد عن نفس الفترة ونفس الموضوع كتبه (عبقرية علي)، و(عمرو بن العاص) و(الحسين بن علي) و(ذو النورين عثمان بن عفان) و(معاوية بن أبي سفيان في الميزان)، سترى فرقا جوهريا بين تحليلات طه حسين وعاطفية العقاد، ومن أجل ذلك لا يقرأ احد (الفتنة الكبرى) بجزأيها، وانتشرت -وقتها- كتابات العقاد وخاطبت وعي متوسط الثقافة..
ثامنًا: العقاد الصحفي:
بداية العقاد في القاهرة كانت العمل في الصحافة، وأول مقال نشره في حياته كانت في صحيفة اسمها الجريدة يوم 17-6-1907 وعنوانه (الاستخدام أو رق القرن العشرين)، والاستخدام هو التوظيف في دواوين الحكومة، وظل العقاد يكتب في الصحافة إلى أن وافته المنية، ثم يقوم بتجميع المقالات المتشابهة ويصنع منها كتابا، فكتب 6321 مقالة بعضها منشور مرتين، لذلك أقول إن له 6000 مقالة تحاشيا للمتكرر وهذا رقم تقريبي.
كشأن أي صحافي فالعقاد يغطي الأخبار الجارية والتي إذا مرت مناسبتها لم تعد مقروءة، وبالتالي فالكثير الكثير من هذه المقالات لم يتم جمعها في كتاب ولم يعد يقرأها أحد لأنها مرتبطة بأحداث انتهت والأهم أن الوصول إليها صعب جدا.
وعلى سبيل المثال كان العقاد محاورا ممتازا وله أحاديث صحفية كثيرة منشورة لكنها لا تلفت انتباه أي أحد مثل حديثه مع مختار باشا الغازي، وحديثه مع سعد باشا زغلول ناظر المعارف وقتها.
وجزء كبير من هذه المقالات تغطية لأحداث يومية مثل مقاله عن انتشار الانتحار في القاهرة أو الفتنة بين المسلمين والأقباط، ومقالاته عن صراع أمريكا وتركيا سنة 1919، ومقاله عن المعاهدة السرية بين اليابان وألمانيا سنة 1919.
في رأيي فإن هذه المقالات مفيدة جدا وأتمنى من وزارة الثقافة أن تطبع منها مختارات؛ لأنها جزء من تاريخ مصر وتمارين على الأسلوب الجيد والكتابة الواعية
إن غياب هذا الجانب من كتابات العقاد معناه اختفاء أكبر جوانب اهتماماته الحياتية!

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
Scroll to Top
انتقل إلى أعلى